الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِىٓ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قَالَ فَمَن رّبّكُمَا يَا مُوسَىَ ۝ قَالَ رَبّنَا الّذِيَ أَعْطَىَ كُلّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَىَ ۝ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَىَ ۝ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّي فِي كِتَابٍ لاّ يَضِلّ رَبّي وَلاَ يَنسَى [سورة طه:49-52]، يقول تعالى مخبراً عن فرعون أنه قال لموسى منكراً وجود الصانع الخالق إله كل شيء وربه ومليكه، قال: فَمَن رّبّكُمَا يَا مُوسَىَ، أي: الذي بعثك وأرسلك من هو؟! فإني لا أعرفه وما علمت لكم من إله غيري، قَالَ رَبّنَا الّذِيَ أَعْطَىَ كُلّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَىَ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: يقول خلق لكل شيء زوجه، وقال الضحاك عن ابن عباس - ا -: جعل الإنسان إنساناً، والحمار حماراً، والشاة شاة، وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: أعطى كل شيء صورته، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: سوّى خلق كل دابة، وقال سعيد بن جبير في قوله: أَعْطَىَ كُلّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَىَ قال: أعطى كل ذي خلق ما يصلحه من خلقه، ولم يجعل للإنسان من خلق الدابة، ولا للدابة من خلق الكلب، ولا للكلب من خلق الشاة، وأعطى كل شيء ما ينبغي له من النكاح، وهيأ كل شيء على ذلك، ليس شيء منها يشبه شيئاً من أفعاله في الخلق والرزق والنكاح، وقال بعض المفسرين: أعطى كل شيء خلقه ثم هدى كقوله تعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، أي: قدر قدَراً وهدى الخلائق إليه، أي: كتب الأعمال والآجال والأرزاق ثم الخلائق ماشون على ذلك لا يحيدون عنه ولا يقدر أحد على الخروج منه.

يقول: ربنا الذي خلق الخلق، وقدر القدر، وجبل الخليقة على ما أراد.

قوله - تبارك وتعالى -: الّذِيَ أَعْطَىَ كُلّ شَيءٍ خَلْقَهُ نقل الحافظ ابن كثير - رحمه الله - عن ابن عباس - ا - قوله: "خلق لكل شيء زوجاً"، بمعنى: لكل ذكر ما يوافقه من الإناث، هذا الذي قصده ابن عباس - ا - وبه قال بعض المفسرين، واختاره الفراء، وابن جرير - رحمه الله - يقول: إنه أعطى نظير خلقه في الصورة والهيئة، فالذكور من بني آدم أعطاهم نظير خلقهم من الإناث مثلاً وهي الزوجات، وهكذا أيضاً سائر أنواع الحيوان جعل لها نظير خلقها من الزوجات، والأقوال التي هنا وردت عن ابن عباس: "جعل الإنسان إنساناً، والحمار حماراً، والشاة شاة"، أَعْطَىَ كُلّ شَيءٍ خَلْقَهُ، يعني: أن الله خلق هذا الخلق متفاوتاً، وأعطى كل خلق ما يليق به، فنوّع هذه المخلوقات، ولهذا يقول مجاهد: "أعطى كل شيء صورته"، وقوله: "سوّى خلق كل دابة"، وهكذا قول من قال: "أعطى كل ذي خلق ما يصلحه من خلقه، ولم يجعل للإنسان من خلق الدابة ولا الدابة ... إلى آخره"، هذه الأقوال كلها - والله تعالى أعلم - تدخل في معنى الآية، أَعْطَىَ كُلّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَىَ الخلق يعني: أن الله ركبه وصوره وجعله في حال يصلح لمثله مما أراد الله - تبارك وتعالى - له، وهذا يشمل الصور والهيئات في الظاهر، كما أنه يشمل تنويع هذا الخلق، فإذا نظرت إلى المخلوقات تجد أن الله فاوت بينها غاية التفاوت، فأعطى الله - تبارك وتعالى - الدواب في البحر هيئة غير هيئة الدواب التي في البر، وفاوت بين هذه الدواب التي تكون في البحر، كما فاوت بين الدواب التي تكون في البر، فخلْق هذه الأسماك يختلف عن خلْق الجمل والفيل، كما أن خلق الزرافة يختلف عن خلق الشاة، وهكذا في الزواحف نوّعها وجعل خلقها في الجملة مغايراً لخلق ما يمشي أو يدب على أربع، وجعل من هذه المخلوقات ما يمشي على رجلين، ومنه ما يطير في الهواء، فنوّع هذه الصور والأشكال، وجعل الإنسان في أحسن تقويم، فالآية تشمل - والله تعالى أعلم - هذا كله، حتى في الأجزاء والأبعاض فاليد جعلها بهذه الصورة تصلح للقبض والبسط والأخذ ونحو ذلك، ركبها بهذا التركيب: الكف، والأصابع، وجعل فيها هذه المفاصل؛ لتسهل فيها الحركة، ويحصل المقصود والانتفاع منها، وجعل فيها هذه الأنامل اللطيفة بأطرافها وشدها بالأظفار، ويستطيع صاحبها أن يعقد بها ويربط، ويستطيع أن يتصرف سائر التصرفات، وجعل الرِّجل بهيئة أخرى لا تصلح للربط، والأخذ، والعطاء، وإنما تصلح للمشي فركبها تركيباً خاصاً، كما ركب الله - تبارك وتعالى - سائر بدن الإنسان، وجعل العين غير صورة الأذن، فالأذن للسماع جعل فيها هذه التجاويف، والعين للنظر جعلها بهذه الصورة البديعة، وقل مثل ذلك في سائر الأشياء، فالآية تشمل هذا كله، - والله تعالى أعلم -، وهذا الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ خلْقه اللائق به، أَعْطَىَ كُلّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَىَ، يعني: هداه لما يصلحه، هذه المخلوقات هداها لما تقوم به معايشها، ويحصل بقاؤها ودوامها، فالسباع تخرج لها أنياب، وتقبل على لون من المطعوم يختلف عما يقبل عليه غيرها، فالطائر جعل الله له منقاراً فهو يلتقط به، ويأكل الحب ونحو ذلك، والشاة جعل الله لها خلقاً آخر تقبل على لون من الطعام من غير تعليم، خِلقة، والصغير يخرج من بطن أمه ويلتقم الثدي من غير أن يُعلم ويُدرب على ذلك، ومن تأمل ونظر في هذه المخلوقات وجد العجب العجاب، كيف هذه المخلوقات تعرف هذه الأمور وتهتدي إليها؟!، وكيف النحل يبني هذه الخلايا، بهذه الطريقة العجيبة؟!، ولو أُخذ صغار النحل ووضع في مكان معزول فإنه يبني خليته بنفس الطريقة التي يبني بها النحل خلاياه في أي مكان على وجه الأرض، فالله - تبارك وتعالى - علمها هذا، وهداها إليه، فسبحانه مِن خالق حكيم.

قال العلامة الشنقيطي - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى: "فيه للعلماء أوجه لا يكذب بعضها بعضاً، وكلها حق، ولا مانع من شمول الآية لجميعها، منها: أن معنى أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى أنه أعطى كل شيء نظير خلقه في الصورة والهيئة، كالذكور من بني آدم أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجاً، وكالذكور من البهائم أعطاها نظير خلقها في صورتها وهيئتها من الإناث أزواجاً، فلم يعط الإنسان خلاف خلقه فيزوجه بالإناث من البهائم، ولا البهائم بالإناث من الإنس، ثم هدى الجميع لطريق المنكح الذي منه النسل والنماء، كيف يأتيه، وهدى الجميع لسائر منافعهم من المطاعم والمشارب وغير ذلك.

وهذا القول مروي عن ابن عباس - ا - من طريق علي بن أبي طلحة، وعن السدي وسعيد بن جبير، وعن ابن عباس أيضاً: ثُمَّ هَدَى، أي: هداه إلى الألفة والاجتماع والمناكحة.

وقال بعض أهل العلم: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، أي: أعطى كل شيء صلاحه ثم هداه إلى ما يصلحه، وهذا مروي عن الحسن وقتادة.

وقال بعض أهل العلم: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، أي: أعطى كل شيء صورته المناسبة له. فلم يجعل الإنسان في صورة البهيمة، ولا البهيمة في صورة الإنسان، ولكنه خلق كل شيء على الشكل المناسب له، فقدره تقديراً، كما قال الشاعر:

وله في كل شيء خِلقة وكذاك الله ما شاء فعل.

يعني بالخلقة: الصورة، وهذا القول مروي عن مجاهد ومقاتل وعطية وسعيد بن جبير، ثُمَّ هَدَى كلَّ صنف إلى رزقه وإلى زوجه.

وقال بعض أهل العلم: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، أي: أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك الأنف والرِّجل واللسان وغيرها، كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير نابٍ عنه، وهذا القول روي عن الضحاك، وعلى جميع هذه الأقوال المذكورة فقوله تعالى: كُلَّ شَيْءٍ هو المفعول الأول لـ أَعْطَى، وخَلْقَهُ هو المفعول الثاني"[1].

الإمام ابن القيم - رحمه الله - يرد بقوة على من يقول بأن المقصود بـ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ أي: أعطى الذكور ما يناسبها من الإناث، ويوافق خلقها، ويقتصر على هذا المعنى، فيقول - رحمه الله تعالى -: "قال مجاهد: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ لم يعط الإنسان خلق البهائم ولا البهائم خلق الإنسان، وأقوال أكثر المفسرين تدور على هذا المعنى، قال عطية ومقاتل: أعطى كل شيء صورته، وقال الحسن وقتادة: أعطى كل شيء صلاحه، والمعنى: أعطاه من الخلق والتصوير ما يصلح به لما خُلق له، ثم هداه لما خلق له وهداه لما يصلحه في معيشته ومطعمه ومشربه ومنكحه وتقلبه وتصرفه، هذا هو القول الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين، فيكون نظير قوله: قَدَّرَ فَهَدَى [سورة الأعلى:3] وقال الكلبي والسدي: أعطى الرجل المرأة، والبعير الناقة، والذكر الأنثى من جنسه، ولفظ السدي أعطى الذكر الأنثى: مثل خلقه ثم هدى إلى الجماع، وهذا القول اختيار ابن قتيبة والفراء، قال الفراء: أعطى الذكر من الناس امرأة مثله، والشاة شاة والثور بقرة ثم ألهم الذكر كيف يأتيها، قال أبو إسحاق: وهذا التفسير جائز؛ لأنا نرى الذكر من الحيوان يأتي الأنثى ولم ير ذكراً قد أتى أنثى قبله، فألهمه الله ذلك وهداه إليه، قال: والقول الأول ينتظم هذا المعنى؛ لأنه إذا هداه لمصلحته فهذا داخل في المصلحة، قلت: أرباب هذا القول هضموا الآية معناها؛ فإن معناها أجل وأعظم مما ذكروه، وقوله: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ يأبى هذا التفسير؛ فإنّ حمْل كل شيء على ذكور الحيوان وإناثه خاصة ممتنع لا وجه له، وكيف يخرج من هذا اللفظ الملائكة والجن ممن لم يتزوج من بني آدم، ومن لم يسافد من الحيوان، وكيف يسمى الحيوان الذي يأتيه الذكر خلقاً له؟ وأين نظير هذا في القرآن؟ وهو سبحانه لما أراد التعبير عن هذا المعنى الذي ذكروه، ذكره بأدل عبارة عليه وأوضحها فقال: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى [سورة النجم:45]، فحمْلُ قوله: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ على هذا المعنى غير صحيح فتأمله، وفي الآية قول آخر قاله الضحاك قال: أعطى كل شيء خلقه: أعطى اليد البطش، والرِّجل المشي، واللسان النطق، والعين البصر، والأذن السمع، ومعنى هذا القول أعطى كل عضو من الأعضاء ما خلق له، والخلق على هذا بمعنى المفعول، أي: أعطى كل عضو مخلوقه الذي خلقه له، فإن هذه المعاني كلها مخلوقة لله أودعها الأعضاء وهذا المعنى وإن كان صحيحاً في نفسه لكن معنى الآية أعم، والقول هو الأول وأنه سبحانه أعطى كل شيء خلقه المختص به، ثم هداه لما خلق له، ولا خالق سواه سبحانه ولا هادي غيره، فهذا الخلق وهذه الهداية من آيات الربوبية ووحدانيته، فهذا وجه الاستدلال على عدو الله فرعون"[2].

  1. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4/19).
  2. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، للإمام ابن القيم الجوزيه (78-79).