الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَٰبٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّى وَلَا يَنسَى

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَىَ أصح الأقوال في معنى ذلك أن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق، وقدر فهدى، شرع يحتج بالقرون الأولى، أي: الذين لم يعبدوا الله، أي: فما بالهم إذا كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره، فقال له موسى في جواب ذلك: هم وإن لم يعبدوه فإن عملهم عند الله مضبوط عليهم، وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله وهو اللوح المحفوظ، وكتاب الأعمال.

قوله: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَىَ ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هو الذي عليه عامة المفسرين - أنه من المعنى - فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَىَ لم يتعرفوا على هذا المعبود، ويتقربوا إليه ويفردوه بالعبادة؟، يدعوه إلى التوحيد والإيمان ويحتج عليه فرعون بالقرون التي وقع منها الإشراك، وترك عبادة الله ، هذا هو المعنى الذي تدل عليه الآية - والله تعالى أعلم -، وهو الذي اختاره ابن جرير ورجحه ابن القيم، وبعضهم يقول: إنه أراد المغالطة لما خشي أن ينقطع ويظهر عجزه جعل يشغب بهذا فيسأل موسى فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَىَ، يعني: أخبرنا عما جرى لهم، ووقع لهم من الحوادث ونحو ذلك؟، وإنما ما بال القرون الأولى لم يعبدوه؟، والله تعالى أعلم.

وقال ابن القيم - رحمه الله -: "ولهذا لما علم فرعون أن هذه حجة قاطعة لا مطعن فيها بوجه من الوجوه عدل إلى سؤال فاسد عن وارد فقال: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَىَ، أي: فمال القرون الأولى لم تقر بهذا الرب ولم تعبده بل عبدت الأوثان؟، والمعنى لو كان ما تقوله حقاً لم يخفَ على القرون الأولى ولم يهملوه، فاحتج عليه بما يشاهده هو وغيره من آثار ربوبية رب العالمين، فعارضه عدو الله بكفر الكافرين به، وشرك المشركين، وهذا شأن كل مبطل؛ ولهذا صار هذا ميزاناً في ورثته يعارضون نصوص الأنبياء بأقوال الزنادقة، والملاحدة وأفراخ الفلاسفة، والصابئة والسحرة ومبتدعة الأمة وأهل الضلال منهم، فأجابه موسى عن معارضته بأحسن جواب فقال: عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي [سورة طه:52]، أي: أعمال تلك القرون وكفرهم، وشركهم معلوم لربي قد أحصاه وحفظه وأودعه في كتاب فيجازيهم عليه يوم القيامة، ولم يودعه في كتاب خشية النسيان والضلال فإنه سبحانه لا يضل ولا ينسى، وعلى هذا فالكتاب هاهنا كتاب الأعمال، وقال الكلبي: يعني به اللوح المحفوظ، وعلى هذا فهو كتاب القدر السابق، والمعنى على هذا أنه سبحانه قد علم أعمالهم وكتبها عنده قبل أن يعملوها، فيكون هذا من تمام قوله: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى فتأمله"[1].

لاّ يَضِلّ رَبّي وَلاَ يَنسَى، أي: لا يشذ عنه شيء، ولا يفوته صغير ولا كبير، ولا ينسى شيئاً، يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط، وأنه لا ينسى شيئاً، تبارك وتعالى وتقدس وتنزه، فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان: أحدهما عدم الإحاطة بالشيء، والآخر نسيانه بعد علمه، فنزه نفسه عن ذلك.

قوله - تبارك وتعالى -: لاّ يَضِلّ رَبّي لا يضل: أقوال المفسرين ترجع - والله تعالى أعلم - إلى معنى هذه اللفظة، فإن كلمة ضل بمعنى ذهب وتلاشى وغاب واضمحل ونحو ذلك، وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ [سورة السجدة:10] بمعنى: غابوا وتفرقت أبعاضهم وأجزاؤهم فيها، تحللوا فيها، وهكذا الذهاب عن حقيقة الشيء يقال له ضلال، كما قال إخوة يوسف لأبيهم يعقوب : إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95]، يعني: الذهاب عن الحق في حقيقة ما جرى ليوسف ، ولم يقصدوا بهذا أنه ضل بضلاله يعني: الكفر، وإلا لكانوا كفاراً بذلك؛ لأنه نبي ، وهكذا أيضاً حينما قال الله - تبارك وتعالى -: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [سورة الضحى:7] فسر بأنه ذاهب عن حقيقة النبوة، والوحي، فهداه الله لذلك، فهنا: لاّ يَضِلّ رَبّي وَلاَ يَنسَى، يعني: لا يقع منه الخطأ بمعنى الذهاب عن حقيقة الشيء، ولا يغيب عنه شيء من الأشياء كما هو الحاصل بالنسبة للآدميين، والنسيان هو الذهول عن المعلوم، والفرق بين النسيان وبين السهو أن السهو يكون المعلوم مكتناً في الذهن يحتاج فقط إلى تنبيه، سها عن كذا، بخلاف نسي.

ذهاب ما علم قُل نسيان والعلم في السهو له اكتنانُ

فإذا حفظ الإنسان آية ثم نسيها، يقال لهذا: نسيان، وإذا حصل له ذهول عارض عنها يقال: سها عنها، فهي في ذهنه معلومة فلو نُبه لتنبه، فالله - تبارك وتعالى - لا يرد عليه الخطأ، ولا يذهب عنه شيء من الأمور ولا يفوته شيء من الأشياء، ولا ينسى، وعلم الله - تبارك وتعالى - لا يحصل له ما يحصل لعلم البشر من الأمور العارضة حيث إن هذا المعلوم بالنسبة للبشر يحصل له شيء من التغيب عن الذهن، فيعجز الإنسان عن استحضاره واسترجاعه، لكن علمه تعالى محيط لا يخفى عليه خافية، ولا تعرض له العوارض التي يحصل فيها الضعف والخطأ والعجز، والله أعلم.

  1. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم (79).