فقوله - تبارك وتعالى -: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: هذا من تمام كلام موسى فيما وصف به ربه حين سأله فرعون عنه فقال: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ثم اعترض الكلام بين ذلك، ثم قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فيما سبق لما سأل فرعونُ موسى فقال: فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى [سورة طه:49] قال: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، بحسب كلام المؤلف: جاء كلام معترض وهو قوله: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى [سورة طه:51-52] ثم قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا، وهذا القول: وهو إن هذا من تمام كلام موسى يرد عليه إشكال وهو أنه قال: فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى، إذا كان هذا من كلام موسى فموسى يقول: إن هذا الرب الذي ندعوك إلى عبادته هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء، فكان الأصل أن يقول: فأخرج به أزواجاً من نباتٍ شتى، لكنه قال: فأخرجنا فكيف جاء بضمير المتكلم: أخرجنا؟ فالذين يقولون بأن هذا من تمام كلام موسى يقولون: هذا التفات من الغائب إلى المتكلم، - ولا إشكال أنه التفات -، بل هو حتى على القول الآخر التفات، ومعنى الالتفات: هو التحول في الكلام من الغائب إلى المخاطب أو العكس أو الغائب إلى المتكلم ونحو ذلك كما هنا، ونحو: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:2-4] هذا كله بالغائب، إياك هذا للمخاطب، وهذا الالتفات له حِكَم: تنشيط السامع، تجديد في الكلام، وهناك معانٍ أخرى يذكرونها في كل موضع بحسبه، مثلاً في سورة الفاتحة يقول: لما ذكر أوصافه فكأنه حضر بين يديه فخاطبه، والشاهد أن الذين يقولون بأن هذا من كلام موسى يقولون: حصل هذا الالتفات إلى ضمير المتكلم، للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة، ولكن هذا الجواب لا يخرج من الإشكال، فإنه إذا كان موسى يحكي ذلك عن الله ويذكر صفته فكيف يقول: فَأَخْرَجْنَا؟ وإنما يكون ذلك من كلام الله - تبارك وتعالى -، ولهذا قال جماعة من أهل العلم بأن هذا من كلام الله، وليس من كلام موسى ، وهذا القول هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، واختاره من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وعلى هذا يكون هذا الكلام من قبيل الموصول لفظاً المفصول معنى، فآخر الكلام كان كلام موسى قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وفي القراءة الأخرى: مِهَادًا والمهاد: هو ما يوطَّأ للصبي من فراش ونحوه، يقول: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا، أي: جعل لكم طرقاً تمشون في مناكبها، وأصل السلك: إدخال الشيء في الشيء، والمراد هنا - والله تعالى أعلم - أنه أدخل في الأرض لأجلكم طرقاً ومسالك تسلكونها، يقول: كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [سورة الأنبياء:31]، يقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى، أي: لذوي العقول السليمة المستقيمة، والنُّهى: هي العقول الكاملة أو العقول الراجحة، جمع نُهية قيل: سميت بهذا؛ لأنها تنهى صاحبها عما لا يليق، أو لأن أصحابها - وهم أولو النهى - ينهون الناس عما لا يليق ويأمرونهم بما يجمل ويحسن، أو لأنه يُنْتهى إلى رأيهم، يقول: وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى، يقول: وهذه الآية كقوله تعالى: قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ.