الإثنين 12 / ذو الحجة / 1446 - 09 / يونيو 2025
إِنَّآ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَٰيَٰنَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ٱلسِّحْرِ ۗ وَٱللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰٓ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذن لَكُمْ إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ فَلأُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ وَلَتَعْلَمُنّ أَيّنَا أَشَدّ عَذَاباً وَأَبْقَىَ ۝ قَالُواْ لَن نّؤْثِرَكَ عَلَىَ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدّنْيَا ۝ إِنّا آمَنّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ وَاللّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ [سورة طه:71-73]، يقول تعالى مخبراً عن كفر فرعون وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة والآية العظيمة، ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم، وغُلب كل الغَلب شرع في المكابرة والبهت، وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة فتهددهم وتوعدهم وقال: آمَنتُمْ لَهُ، أي: صدقتموه قَبْلَ أَنْ آذن لَكُمْ، أي: ما أمرتكم بذلك وافْتتُّم عليّ في ذلك، وقال قولاً يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ، أي: أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى واتفقتم أنتم وإياه عليّ وعلى رعيتي لتظهروه، كما قال تعالى في الآية الأخرى: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثم أخذ يتهددهم فقال: فَلأُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ، أي: لأجعلنكم مُثلة، ولأقتلنكم ولأشهرنكم، قال ابن عباس - ا -: فكان أول من فعل ذلك، رواه ابن أبي حاتم.

وقوله: وَلَتَعْلَمُنّ أَيّنَا أَشَدّ عَذَاباً وَأَبْقَىَ، أي: أنتم تقولون: إني وقومي على ضلالة وأنتم مع موسى وقومه على الهدى، فسوف تعلمون من يكون له العذاب ويبقى فيه، فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم هانت عليهم أنفسهم في الله و قَالُواْ لَن نّؤْثِرَكَ عَلَىَ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ، أي: لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين، وَالّذِي فَطَرَنَا يحتمل أن يكون قسماً، ويحتمل أن يكون معطوفاً على البينات، يعنون: لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم المبتدئ خلقنا من الطين فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت، فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ، أي: فافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك، إِنّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدّنْيَا، أي: إنما لك تسلط في هذه الدار وهي دار الزوال، ونحن قد رغبنا في دار القرار، إِنّا آمَنّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا، أي: ما كان من الآثام خصوصاً ما أكرهتنا عليه من السحر لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - في قوله تعالى: وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ قال: أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني إسرائيل, فأمر أن يُعلَّموا السحر بالفرماء، وقال: علموهم تعليماً لا يعلمه أحد في الأرض، قال ابن عباس - ا -: فهم من الذين آمنوا بموسى وهم من الذين قالوا: آمَنّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقوله: وَاللّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ، أي: خير لنا منك وَأَبْقَىَ، أي: أدوم ثواباً مما كنت وعدتنا ومنّيتنا، والظاهر أن فرعون - لعنه الله - صمم على ذلك وفعله بهم رحمة لهم من الله، ولهذا قال ابن عباس - ا - وغيره من السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء.

فقوله - تبارك وتعالى - عن قول فرعون: قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذن لَكُمْ إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ  إنه لكبيركم، يقول الكسائي: في الحجاز يقول الصبي إذا جاء من معلمه أتيت من كبيري، وعلى هذا فالكسائي يقصد أن كبيرهم معلمهم، بحيث إن الكبير يطلق على المعلم، وبعضهم يقول: لَكَبِيرُكُمُ، أي: لعظيمكم، ولا منافاة، فمعلمهم يقال له ذلك ورئيسهم ومقدمهم وقائدهم يقال له هذا إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ، وقوله: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ، يعني: أنه يقطع مثلاً اليد اليمنى والرجل اليسرى، ولا تخفى النكاية التي تحصل بهذا حيث يضعف كل جانب منه، وقوله: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، الصلب: هو أن يشد الإنسان إلى خشبة أو جذع أو نحو ذلك، وهو حي فيقتل كما فعل بخبيب بن عدي ، أو يقتل ثم يصلب، ولهذا كثير من أهل العلم يقولون: إن قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ [سورة المائدة:33] يقولون: يقتل ثم يصلب، وبعضهم يقول: إنه إن قتل ثم صلب فهو لا يشعر بشيء، فالعقوبة لا تردعه ولا تؤلمه؛ لأنه لا يشعر بهذا، ولهذا فإن بعضهم يرى أنه يصلب قبل القتل، وليس هذا محل اتفاق، فالأولون يقولون: إن صلبه بعد القتل يكون من أجل أن يراه الناس فيرتدعوا ويعتبروا، يقول بعض أهل العلم: إن "في" هنا بمعنى "على" في قوله: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، وهذا لا إشكال فيه، لكن كما قال ابن القيم - رحمه الله -: إنه إذا استعمل حرف مكان حرف وناب عنه فإنه يبقى فيه من رائحة الحرف الأول ومعناه، ولهذا فإن بعضهم يقول: إن التعبير بـ "في" هنا يدل على شدة الربط، فكأنه يربطهم ربطاً شديداً ويوثقهم بحيث كأنه يدخلهم في وسط الجذع من شدة الربط، قال: لأن "في" تدل على الظرفية، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، وهو في الواقع يصلبه على الجذع وليس في داخل الجذع، قالوا: لشدة الربط كأنه أدخله في داخل الجذع، وجذوع النخل هي أشد إيلاماً إذا ربط الإنسان إليها، فلا يكون ذلك كربطه إلى جذع شجرة أخرى، ويقول: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى، كأن موسى لم يتوعدهم بأن يعذبهم ولا يملك هذا، فبعضهم يقول: إن فرعون قال ذلك: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى من باب الرد على موسى حيث ذكرهم بعذاب الله ، فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ [سورة طه:61]، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ وبعضهم قال: هذا ابتداءً، وإن كان موسى لم يتوعدهم بعذاب، لكن أراد أن يقرر شدة نكاله وأليم عقوبته، وقوله: قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا يحتمل معنيين كما أشار الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، لَن نُّؤْثِرَكَ لن نقدمك، ولن نختارك على ما جاءنا من البينات، فالمعنى الأول: لن نؤثرك على هذه الدلائل وعلى الله  وَالَّذِي فَطَرَنَا، يعني: لا نؤثرك على هذه الآيات والبينات والبراهين وما يستدعيه هذا من اتباع الحق وعلى الذي فطرنا، فيكونون قصدوا أنهم لا يؤثرونه على الدلائل ولا على الله .

والمعنى الثاني: أنهم لا يؤثرونه على هذه البينات والدلائل والبراهين، لن نقدمك على هذه الأشياء الدامغة ثم أقسموا {وَالَّذِي فَطَرَنَا}، أي: لا نفعل، فالآية تحتمل المعنيين، والله تعالى أعلم.

وقوله: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْر، هل أكرههم فرعون على السحر وقد جاءوا وهم يطمعون في عائدته وجائزته؟، وقالوا له: أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ، والأثر الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - عن ابن عباس - ا - يدل على أن الإكراه وقع لبعضهم وهم هؤلاء الصغار الذين أمر بتعليمهم، أخذوا من أهلهم من أجل أن يُعلَّموا، وبه قال ابن زيد، وهذا من حيث كلام العرب، يصح، يعني باعتبار أن السحرة غير هؤلاء أيضاً، ابن عباس لا يقصد أن السحرة هم فقط مجموعة من الصغار أُخذوا وعلموا، وابن عباس لا يقصد أنه جيء بالتلاميذ، وأنهم أكرهوا، فيَرِدُ على هذا القول سؤال أنه كيف نسب إليهم الإكراه إلى المجموع، وإنما أكره هؤلاء فقط، هذه المجموعة التي عُلمت والبقية ما أكرهوا، بقية السحرة؟، فهذا يمكن أن يخرج تخريجاً يصح وجهه في كلام العرب، وهو أنه قد ينسب إلى الطائفة ما قد صدر من بعضها، وهذا له نظائر في كلام الله وفي كلام العرب، فالله يقول: فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [سورة البقرة:191] قراءة نقرأ بها، وهناك قراءة: فإن قتلوكم فاقتلوهم فالمعنى فإن قتلوا بعضكم فاقتلوهم، يعني: من بقي منهم حياً فيقتلون أولئك، وهكذا في قوله - تبارك وتعالى -: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ [سورة التوبة:30]، مع أنه لم يقل بهذا جميع اليهود، وإنما صدر من بعضهم، وهكذا في قول النصارى المسيح ابن الله، النصارى معروف أنهم اختلفوا في المسيح، فبعضهم قالوا: هو الله، وبعضهم قالوا: هو ابن الله، وبعضهم قالوا: هو ثالث ثلاثة، فيصح أن ينسب إلى الطائفة الفعل الذي يصدر من بعضها، فيكون هنا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ صدر هذا من طائفة أُكرهوا على السحر ولم يُكرَه الجميع عليه، لكن يبقى إشكال من جهة أخرى وهو أنه الآن يريد أن يواجه موسى ، وموسى وعدهم بيوم الزينة، ويوم الزينة هذا كأقصى حد، أقصى مدة، يعني: يوم الزينة يوم معلوم يأتي، فلو كان هذا الكلام وقع في يوم الزينة وأنه ما يأتي بالعام إلا مرة واحدة مثلاً، فأقصى أمد سنة، مع أن الغالب أن ذلك الموعد لا يكون بعد سنة؛ لأن فرعون محتدم النفس، غاضب ويريد الخلاص منهم والمفاصلة، وقد ضاق بهم ذرعاً، فوعدوه في وقت في الغالب لا يطول، ولهذا قال الله : فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى [سورة طه:60] الفاء تدل على التعقيب المباشر، فالشاهد أن هذه المدة ولو كانت سنة لا يمكن لأناس صغار أن يتعلموا بحيث يكونون مهرة في السحر وحُذّاقاً به، وأرسل في المدائن من أجل يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [سورة الأعراف:112]، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ [سورة الشعراء: 37]، فالله أعلم.

بعض أهل العلم يقول: إن فرعون أكرههم على المجيء؛ لأنه أرسل في المدائن من يحشرهم، ويأتي بهم، لكن حينما جاءوا ما أكرهم على فعل السحر وإنما هم يزاولون صنعتهم، ومهنتهم المحببة إلى نفوسهم، وطمعوا بما عند فرعون وقالوا له ما قالوا: أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ [سورة الشعراء:41]، فالإكراه قالوا حصل أولاً، وقالوا له هذا، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى خير منك ومن عدتك وجائزتك وأبقى منك ومن عطائك، وكل هذا يدخل فيه، وروي عن ابن عباس - ا -: "أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء"؛ لأنه قتلهم، وبعضهم يقول: إنه لم يقتلهم، وليس عندنا دليل يدل على أنه قتلهم أو لم يقتلهم، لكن الغالب فيمن كان بمثل هذه المنزلة أنه ينفذ هذا الوعيد، لاسيما أن هذا الأمر الذي وقع هو بالنسبة إليه يعتبر كارثة، فخرج أهل البلد يتفرجون فرأوا هذه الآية العظيمة، ورأوا السحرة يسجدون فهو أراد أن يتخلص من هذا بقول وفعل، القول قال لهم: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ [سورة الأعراف:123] القضية كانت مدبرة ومرتبة ومخطط لها من أجل المكابرة، يقول للناس: هذا الذي ترونه تمثيلية لا حقيقة لها، والفعل: هو القضاء على هؤلاء السحرة والنكال بهم، والنكال أيضاً بموسى  وبني إسرائيل، ولهذا قال له الملأ: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [سورة الأعراف:127]، هو فرعون بحاجة إلى من يحرضه؟! لكن الملأ قذر مثله، وهم خاصته وحاشيته، أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ، ولهذا قال موسى  لقومه: اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ۝ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:128-129] فالشاهد أن أهل العلم اختلفوا في هذا هل قُتل هؤلاء السحرة أو لم يقتلوا؟ فالله تعالى أعلم.

قال الشنقيطي - رحمه الله تعالى -: "وفي آية طه هذا سؤال معروف، وهو أن يقال: قولهم: وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، يدّل على أنه أكرههم عليه، مع أنه دلّت آيات أخر على أنهم فعلوه طائعين غير مكرهين، كقوله في طه: فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ۝ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ۝ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى [سورة طه:62-64]، فقولهم: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً صريح في أنهم غير مكرهين، وكذلك قوله عنهم في الشعراء: قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ۝ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [سورة الشعراء:41-42]، وقوله في الأعراف: قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ۝ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [سورة الأعراف:113-114]، فتلك الآيات تدّل على أنهم غير مكرهين.

وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة معروفة:

منها: أنهم أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم، فلما أكرهوا على القدوم وأُمروا بالسحر أتوه طائعين، فإكراههم بالنسبة إلى أول الأمر وطوعهم بالنسبة إلى آخر الأمر، فانفكت الجهة وبذلك ينتفي التعارض، ويدّل لهذا قوله: وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [سورة الشعراء:36]، وقوله: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [سورة الأعراف:111].

ومنها: أنه كان يكرههم على تعليم أولادهم السحر في حال صغرهم، وأن ذلك هو مرادهم بإكراههم على السحر، ولا ينافي ذلك أنهم فعلوا ما فعلوا من السحر بعد تعلمهم وكبرهم طائعين.

ومنها: أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائماً، ففعل فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر الساحر؛ لأن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه، وألزمهم بذلك، فلما لم يجدوا بُداً من ذلك فعلوه طائعين. وأظهرها عندي الأول، والعلم عند الله تعالى"[1].

وقال رحمه الله في قوله تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ: "ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن سحرة فرعون لما آمنوا برب هارون وموسى قال لهم فرعون منكراً عليهم: آمَنْتُمْ لَهُ، أي: صدقتموه في أنه نبي مرسل من الله، وآمنتم بالله قبل أن آذن لكم، يعني: أنهم لم يكفوا عن الإيمان حتى يأذن لهم، لأنه يزعم أنه لا يحق لهم أن يفعلوا شيئاً إلا بعد إذنه هو لهم، وقال لهم أيضاً: إن موسى هو كبيرهم، أي: كبير السحرة وأستاذهم الذي علمهم السحر، ثم هددهم مقسماً على أنه يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف: يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى مثلاً؛ لأنه أشد على الإنسان من قطعهما من جهة واحدة؛ لأنه إن كان قطعهما من جهة واحدة يبقى عنده شق كامل صحيح، بخلاف قطعهما من خلاف، فالجنب الأيمن يضعف بقطع اليد، والأيسر يضعف بقطع الرجل كما هو معلوم، وأنه يصلبهم في جذوع النخل"[2].

وقال الشنقيطي - رحمه الله تعالى -: "واعلم أن العلماء اختلفوا: هل فعل بهم فرعون ما توعدهم به، أو لم يفعله بهم؟ فقال قوم: قتلهم وصلبهم، وقوم أنكروا ذلك، وأظهرهما عندي: أنه لم يقتلهم، وأن الله عصمهم منه لأجل إيمانهم الراسخ بالله تعالى؛ لأن الله يقول لموسى وهارون: أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [سورة القصص:35] والعلم عند الله تعالى"[3].

والقول بأنه لم يقتلهم باعتبار أن الله قال: أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ليس بصريح في أن هؤلاء السحرة لم يقتلوا، فالعبرة بالعواقب والنهايات، فقتل بعضهم وظهور من لم يقتل بعد ذلك في آخر الأمر يكفي أن يكون مصداقاً لهذا الوعد، فالرسل - عليهم الصلاة والسلام - الله وعد بنصرهم، وظهورهم وغلبتهم، ومع ذلك قتل بعض أتباعهم قبل أن يروا هذا النصر كما حصل لبعض أصحاب النبي ﷺ، بل إن الله - تبارك وتعالى - قال في أتباع المسيح : فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [سورة الصف:14]، وكثير من أهل العلم من يقول بأنه لم يكن لأصحاب المسيح  ولأتباعه من أهل التوحيد ظهور، وهذا صحيح، إنما كان ظهورهم ببعث النبي ﷺ فحصل ما حصل لليهود من هزيمة، وقتل، وما إلى ذلك، وبعضهم يقول: الذين ظهروا هم من لهم شائبة في اتباع المسيح وإن لم يكونوا على الحق، الذين ظهروا هم أهل الإشراك، أهل التثليث أتباع قسطنطين الملك الذي دخل في النصرانية فأفسدها.

  1. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4/66- 67).
  2. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4/63).
  3. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4/65).