الإثنين 12 / ذو الحجة / 1446 - 09 / يونيو 2025
قَالُوا۟ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَٰكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ فَقَذَفْنَٰهَا فَكَذَٰلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِىُّ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يَا مُوسَىَ ۝ قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَىَ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىَ ۝ قَالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلّهُمُ السّامِرِيّ ۝ فَرَجَعَ مُوسَىَ إِلَىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتّمْ أَن يَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رّبّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مّوْعِدِي ۝ قَالُواْ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنّا حُمّلْنَا أَوْزَاراً مّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السّامِرِيّ ۝ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَىَ فَنَسِيَ ۝ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً [سورة طه:83-89]، لما سار موسى ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:138]، وواعده ربه ثلاثين ليلة، ثم أتبعها له عشراً، فتمت أربعين ليلة، أي: يصومها ليلاً ونهاراً، فسارع موسى مبادراً إلى الطور، واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون، ولهذا قال تعالى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يَا مُوسَىَ قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَىَ أَثَرِي، أي: قادمون ينزلون قريباً من الطور وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىَ، أي: لتزداد عنى رضا، قَالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلّهُمُ السّامِرِيُّ، أخبر تعالى نبيه موسى بما كان بعده من الحدث في بني إسرائيل وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري، وكتب الله تعالى له في هذه المدة الألواح المتضمنة للتوراة كما قال تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [سورة الأعراف:145]، أي: عاقبة الخارجين عن طاعتي المخالفين لأمري.

وقوله: فَرَجَعَ مُوسَىَ إِلَىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً، أي - بعدما أخبره تعالى بذلك - في غاية الغضب والحنق عليهم، هو فيما هو فيه من الاعتناء بأمرهم، وتسلم التوراة التي فيها شريعتهم، وفيها شرف لهم، وهم قوم قد عبدوا غير الله ما يَعلمُ كل عاقل له لب وحزم بطلان ما هم فيه وسخافة عقولهم وأذهانهم، ولهذا قال: رجع إليهم غضبان أسفاً، والأسف شدة الغضب، وقال مجاهد: غضبان أسفاً أي جزعاً، وقال قتادة والسدي: أسفا حزيناً على ما صنع قومه من بعده، قَالَ يَقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبّكُمْ وَعْداً حَسَناً، أي: أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة وحسن العاقبة، كما شاهدتم من نُصرته إياكم على عدوكم وإظهاركم عليه وغير ذلك من أيادي الله؟، أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ، أي: في انتظار ما وعدكم الله، ونسيان ما سلف من نعمه، وما بالعهد من قدم، أَمْ أَرَدتّمْ أَن يَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رّبّكُمْ أم هاهنا بمعنى بل، وهي للإضراب عن الكلام الأول وعدول إلى الثاني، كأنه يقول: بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي، قالوا: أي بنو إسرائيل في جواب ما أنّبهم موسى وقرعهم مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا، أي: عن قدرتنا واختيارنا، ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد، يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم حين خرجوا من مصر، فقذفناها أي ألقيناها عنا، وفي رواية السدي عن أبي مالك عن ابن عباس - ا -، إنما أراد هارون أن يجتمع الحلي كله في تلك الحفيرة، ويجعل حجراً واحداً، حتى إذا رجع موسى رأى فيه ما يشاء، ثم جاء ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر الرسول، وسأل هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوته، فدعا له هارون - وهو لا يعلم ما يريد - فأجيب له، فقال السامري عند ذلك: أسأل الله أن يكون عجلاً، فكان عجلاً له خوار أي صوت، استدراجاً وإمهالاً ومحنة واختباراً، ولهذا قال: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السّامِرِيّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ.

وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس - ا - فقالوا: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَىَ قال: فعكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا شيئاً قط يعني مثله، يقول الله: فَنَسِيَ، أي: ترك ما كان عليه من الإسلام يعني السامري، قال الله تعالى رداً عليهم وتقريعاً لهم وبياناً لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه: أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً، أي: العجل، أفلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه ولا إذا خاطبوه، وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً، أي: في دنياهم ولا في أخراهم، قال ابن عباس - ا -: لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل الريحُ في دبره فيخرج من فمه فيسمع له صوت، وقد ورد في حديث الفتون عن الحسن البصري أن هذا العجل اسمه بهموت، وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر - ا - أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب، يعني هل يصلي فيه أم لا؟ فقال ابن عمر - ا -: انظروا إلى أهل العراق، قتلوا ابن بنت رسول الله ﷺ يعني الحسين - وهم يسألون عن دم البعوضة.

فقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى ۝ قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [سورة طه:83-84]، لما خرج بنو إسرائيل ونجاهم الله من فرعون وأهلكه وأغرقه واعدهم الله - تبارك وتعالى - جانب الطور الأيمن، فتقدمهم موسى إلى الطور، وبقي بنو إسرائيل مع هارون  فقال الله له: وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى، لماذا سبقتهم وخلفتهم وراءك؟ فقال: هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى، وبعض المفسرين يورد سؤالاً وهو أن جواب موسى غير مطابق للسؤال، وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى ۝ قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى، ثم يذكر أجوبة، والذي يظهر - والله أعلم - أن الجواب مطابق للسؤال، ولكنه قدم بمقدمة وهي أنه قال: هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي، وإلا فالجواب: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى، هذا الذي أعجله، المبادرة والمسارعة في طلب مرضاة الله ، وقوله: هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي هذا له تعلق أيضاً بالجواب كأنه يقول: إنهم قريب مني، لم أتقدمهم بشيء كثير معتبر، كمن تقول له: أين أصحابك؟ فيقول: هم أولاء على أثري، هم قريب، تقول له: تقدمت أصحابك تعجلت، تركت أصحابك، يقول: هم أولاء على أثري، كأنه يقول: ما تركتهم هم قريب مني على الطريق، ليس بيني وبينهم شيء كثير، فكأنهم معه، هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي يأتون، وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى، فقال الله له: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فتنا: الفتنة تطلق على الاختبار والامتحان، وتطلق على نتيجة حسنة كانت أو سيئة، وقيل لإدخال الذهب والمعدن في النار: فتنة، تقول: فتنته في النار، يقال ذلك للإحراق فيها؛ لأن ذلك يتخلص به صحيحه من شائبه، والله - تبارك وتعالى - يقول: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [سورة البروج:10] يعني أحرقوهم بالنار، وهنا فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فالله - تبارك وتعالى - ابتلاهم بهذا العجل الذي صار بهذه المثابة، ففتنّا فيه من فُتن منهم حتى عبدوه، وعكفوا على عبادته وادعوا أنه ربهم، بل كذبوا على موسى  واجترءوا عليه وقالوا: إنه ذهب يطلب ربَّه، وربُّه هاهنا، وهذا السامري قيل: هو رجل من أهل السامرة، وقيل: كان من كبار بني إسرائيل، وقيل: كان جاراً لموسى ، وقيل غير هذا، والحاصل أنه رجل ممن كان معهم، وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ، والله - تبارك وتعالى - أخبر موسى بذلك فرجع موسى إلى قومه غضبان أسِفاً، والأسَف: هو الغضب، والأسِف هو الغاضب، يقال ذلك لشدة الغضب، فلا تكرار، يعني: رجع غضبان شديد الغضب، ولا يقال: إن هذا تكرار، ولذلك لا حاجة لتفسيره بالغم أو الحزن أو نحو هذا من أجل التخيير، فلما جاء إليهم قال: يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا، يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: أي أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة، وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم، وإظهاركم عليه وغير ذلك من أيادي الله؟، وهذا من أجمع ما قيل في تفسير الآية، وبعضهم يقول: وعدهم أن ينزل عليهم كتاباً فيه كل ما يحتاجون إليه، كما يقول الشنقيطي - رحمه الله -، فموسى ذهب إلى الميقات من أجل مناجاة الله ، ولأجل أن ينزل الله عليه ذلك الكتاب، وهكذا قول من قال: وعدهم أن يسمعهم كلامه على لسان رسوله ﷺ ليعملوا بما فيه، وهو التوراة، وبعضهم يقول: إن الوعد هو ما تقدم من قوله: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى، وواعدهم جانب الطور، وأنزل عليهم المن والسلوى وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، وأَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا قال: أي في انتظار ما وعدكم الله ونسيان ما سلف من نعمه وما بالعهد من قدم، فجمع بين المعنيين أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ، قال: في انتظار ما وعدكم الله، يعني بأن ينزل عليكم كتاباً مثلاً، وهذا مستلزم لقول من قال - أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي: العهد بي -: إن الله واعد موسى ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر، فكأنهم تباطئوه فعبدوا العجل، فيقول: أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ، أي: بتنزيل الكتاب، وهكذا قول من يقول: أفطال عليكم العهد بي، أبطأت عليكم، يقول: ونسيان ما سلف من نعمه، أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي ۝ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ  [سورة طه:86-87]، وبعضهم يقول: إن الذين قالوا هذا هم الذين لم يعبدوا العجل؛ لأنه لم يعبد العجل كلُّ الذين كانوا مع هارون وإنما عبده بعضهم، ويقال: إن الذين كانوا مع هارون  - والله تعالى أعلم - كانوا اثني عشر ألفاً، الذين لم يعبدوا العجل، وأن البقية عبدت العجل، وهذا من الأخبار الإسرائيلية، ويختلفون في تقدير عدد بني إسرائيل حينما خرجوا من مصر، ومن أهل العلم من يقول: إن الذين أجابوا بهذا الجواب هم الذين لم يعبدوا العجل، قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ وهذا القول وإن كان له وجاهة في بادئ الأمر لكن ما بعده يدل على خلافه، وجه وجاهة هذا القول: أن قوله - تبارك وتعالى - عنهم: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا إن كان صدر من الذين عبدوا العجل هذا جواب بارد، لأنهم لم يذكروا عذراً معتبراً، لكنه إن صدر من الذين لم يعبدوا العجل فإنهم قالوا: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا بمعنى أننا على الطريق وعلى أثرك، ولكن لما نزلت بنا هذه المصيبة وعبد هؤلاء العجل لم نتمكن من مقاتلتهم حتى ترجع، ولم نتمكن من تركهم ونلحق بك لئلا يتفرق جمع بني إسرائيل فأبطأنا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا، لكن قوله بعده: وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا يدل على أن الذين قالوا هذا هم الذين عبدوا العجل، وأنهم اعتذروا بهذا العذر البارد، فقوله عنهم: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا قال: أي عن قدرتنا واختيارنا، مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا، وقرأ نافع وعاصم بفتح الميم بمَلكنا، وقرأه ابن كثير  وأبو عمرو وابن عامر بالكسر بمِلكنا، والمعنى: أي فأخطأنا، وبعضهم يقول: بمِلكنا أمورنا، يعني: لم نملك أمرنا، وفي قراءة حمزة والكسائي بالضم بمُلكنا، أي: بسلطاننا، والذي يظهر - والله أعلم - أن هذه القراءات ترجع إلى معنى واحد، فهم يقولون: ما أخلفنا موعدك بإرادتنا وإنما وقع لنا ما لم نتمكن من الخلاص منه - نسأل الله العافية -، ولم نملك أمورنا ومن ثم لم نتمكن من الثبات على الصواب ولزوم الحق والصراط المستقيم، عرضت لهم فتنة فاستزلهم الشيطان وفتنوا بهذا العجل فزاغت قلوبهم وانحرفوا، ووقعوا في هذا الإشراك العظيم، فكأنهم يقولون: لم نطق حمل أنفسنا على الصواب، بمجرد أن رأينا هذا العجل له خوار وقع لنا اضطراب فزلت قدم بعد ثبوتها، هكذا يعتذرون، وهذا عذر سخيف، يقول لهم: لماذا عبدتم هذا العجل؟ فيقولون: والله شيء خارج عن مقدورنا، لم نفعل ذلك بقدرتنا على لزوم الحق، وإنما وقع ذلك بشيء من إقبال النفس، أو بشيء من الفتنة التي حصلت في القلوب فأدت إلى زيغها وضلالها وانحرافها، وهذا من أعجب الأشياء، وكلما يقف الإنسان عند هذه الآية ويتأمل يرجع أحياناً بسؤال كبير وهو أنهم نجاهم الله قبل قليل من فرعون، والبحر انفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، ورأوا عدوهم يهلك أمامهم ثم بعد ذلك يعبدون عجلاً، فقد صحبوا موسى ، ومعهم هارون وحين أراد هارون أن يغير عليهم هموا بقتله، واستخفوا به، واستضعفوه، وقالوا: لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [سورة طه:91]، فلم يفرقوا بين ربهم - تبارك وتعالى - وبين العجل الذي عبدوه، إذ كيف يكون هذا العجل الذي له خوار هو الرب الخالق المعبود؟ فهذا من أعجب الأشياء، ولو وقع هذا للجيل الثالث أو الرابع أو الخامس لكان معقولاً، لكون العلم قد اندرس لكن الذين مع موسى!، والبدايات عادة يكون فيها من الإقبال وهذه بدايات، وهذا عذرهم، يقول: وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ حُمِّلنا، هذه قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وحفص، وقرأ الباقون بالفتح: وَلَكِنَّا حَمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ، والمقصود بـ"القوم": الفراعنة، فكانوا قد استعاروا منهم حُلياً، وبعض أهل العلم يقول: إن هذه الاستعارة كانت فيما مضى من الأيام، فكانت المرأة من بني إسرائيل - وهم يعملون في الخدمة عند الفراعنة - تستعير الحلي في المناسبات، وبقي ذلك الحلي معهم حينما خرجوا سراً؛ لئلا يطلع فرعون على خروجهم، فكان ذلك معهم وأرادوا الخلاص منه، وبعضهم يقول: إن ذلك الحلي كان مما كان يلبسه الفراعنة، فلما غرقوا وألقاهم الماء أخذوا ما معهم، فإن كان ذلك من قبيل الاستعارة، مما استعاروه منهم فإنه لا يحل لهم، فهو لم يحصل لهم بشراء ولا هبة، وإن كان ذلك مما كان يلبسه فرعون ومن معه فإن الغنائم كانت محرمة على بني إسرائيل، فكانت تنزل نار من السماء فتحرقها، فالشاهد أنهم يقولون: حُمِّلْنَا وفي القراءة الأخرى: حَمِّلْنَا أَوْزَارًا والأوزار هي الأثقال، وبعضهم يقول: المقصود بهذه الأوزار: الأشياء المحرمة عليهم؛ إما لأنها استعيرت، أو لأنها كانت من الغنائم، والغنائم محرمة فأرادوا الخلاص منها، فَقَذَفْنَاهَا، وبعضهم يقول: قذفناها: يعني أنهم ألقوها من أجل أن تنزل هذه النار المحرقة، فقذف السامري ما معه من القبضة، فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ، وبعضهم يقول: إنهم ألقوها في حفرة؛ لأن هارون أمرهم بهذا حتى يأتي موسى ثم ينظر فيها، فقذف عليها السامري هذه القبضة فصارت عجلاً، وبعضهم يقول: إن هارون أراد أن يجعلها قطعة واحدة، فأوقد عليها، فجاء السامري وألقى عليها هذه القبضة فصارت عجلاً، فالشاهد أنهم يقولون: فَقَذَفْنَاهَا يقول: أي ألقيناها عنا، ألقوها من أجل أن تأتي النار فيتخلصوا منها كما يتخلصون من الغنائم فتحرق، أو ألقوها للسامري لتبقى عنده حتى يرجع موسى ، يقول: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ، كما ألقيناها نحن فكذلك ألقى السامري، أي: فمثل ذلك القذف ومثل ذلك الإلقاء فعله السامري، ألقى ما معه من القبضة، فهم كأنهم يقولون: فقذفنا هذا الحلي في الحفرة أو في غيرها، وكذلك قذف السامري ما معه، وهذه الأخبار الإسرائيلية نحن لا نصدق بها كما هو معروف ولا نكذبها، فبعضهم يقول: إنه لما رأى حافر فرس الملك جبريل ، وبعضهم يقول: رآه حينما كان يتبع الفرس التي كان يركبها فرعون، وهذا غريب؛ لأنهم قد نجوا وصاروا إلى الشق الآخر، فالشاهد أنهم يقولون: أخذ قبضة من أثره، وبعضهم يقول: رآه لما جاء لموسى  فأخذ قبضة من حافره، وبعضهم يقول: إنه رأى حافر الفرس كلما وقعت على شيء نبت واخضر، فأُلقي في روعه - في قلبه - أنه لا يأخذ ذلك الأثر فيلقيه على شيء فيقول له كن كذا إلا يكون، فالشاهد أن هذا الرجل سيئ أخذ ذلك من أجل أن يعده لأمر ما كهذا، رجل متهيئ مستعد فهو يبيت أمراً مكروهاً، ويقول: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ۝ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، نسأل الله العافية، عجلاً جسداً، بعضهم يقول: هو من ذهب وفيه ثقوب يدخل معها الهواء كما يقول ابن عباس ويخرج من الجهة الأخرى فيصدر صوتاً، وإلا فلا حياة فيه، وبعضهم يقول: إن قوله: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا يدل على أنه تحول إلى عجل من لحم ودم فتنة لهم، كما أن الله خلق الإنسان من طين فصار لحماً ودماً، فالله قادر على أن يحول هذا الذهب إلى هذه الصفة من لحم ودم، وهذا الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، ولكن قد يضعف هذا القول ما جاء بعده من قول موسى : وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا [سورة طه:97]، فيدل على أنه كان من الذهب وأنه لم يتحول إلى مخلوق من لحم ودم، وقال لهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [سورة طه:88]، يقول ابن كثير - رحمه الله -: "أي ترك ما كان عليه من الإسلام يعني السامري"، فيكون هذا من كلام الله ، ويكون من الموصول لفظاً المفصول معنى.

والضمير في قوله: فَنَسِيَ راجع إلى السامري ويكون هذا من كلام الله ، والنسيان بمعنى الترك، وليس بمعنى الذهول عن المعلوم، فذهاب المعلوم يقال له نسيان، والنسيان يطلق على معنى آخر وهو الترك، نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ [سورة التوبة:67]، نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [سورة الحشر:19]، فيكون من كلام الله الذي يصف فيه السامري، والمعنى الآخر - وقال به كثير من السلف - هو أن ذلك النسيان يرجع إلى موسى ويكون هذا من بقية كلام السامري، قال لهم: هذا إلهكم وإله موسى فنسي، يعني موسى نسي أن يذكركم ويقول لكم: هذا ربكم، لكن العجل لم يكن موجوداً، وكثير منهم يقولون: فنسي أي موسى فذهب يطلب ربه في مكان آخر، فالرب الذي أنجاهم من آل فرعون وقال له: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى [سورة طه:77]، - وكان العجل وقتئذٍ حلياً معهم - هو العجل، لكن هذا يدل على أنهم بمنتهى البلادة، وقد عبدوا هذا الحيوان الذي يضرب به المثل بالبلادة، فالذي لا يفهم مثلاً يقال له: ثور، فالثور يضرب به المثل في البلادة، والعجل من الثور، فقبل لحظات كان حلياً ثم جعلوه عجلاً ثم يتحول إلى إله ويكذبون على موسى ويسيئون الأدب معه ويقولون: هو ذهب يطلب ربه وأخطأه، وهذا هو ربه، يكابرون بهذه المكابرة، وهذا القول قال به كثير من المفسرين، وهو الذي اختاره ابن جرير وابن القيم: أن الذي نسي هو موسى ، ولهذا قال الله لهم: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وهذا يدل على شدة علوق النفوس بهذه الأمور، ولهذا قطعت الشريعة كل أسباب الإشراك، فجاء النهي عن الصلاة في المقابر أو إلى القبور، وكذلك البناء على القبور، وتحريم التصاوير، فالنفوس في هذه الأشياء قد تفتن فتنة عظيمة، ويحصل لها مثل ما حصل لهؤلاء الناس، وهنا قال: فَنَسِيَ ۝ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا.