الثلاثاء 13 / ذو الحجة / 1446 - 10 / يونيو 2025
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلَا بِرَأْسِىٓ ۖ إِنِّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلّوَاْ ۝ أَلاّ تَتّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ۝ قَالَ يَابْنَ أُمّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرّقْتَ بَيْنَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [سورة طه:92-94]، يخبر تعالى عن موسى حين رجع إلى قومه، فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم فامتلأ عند ذلك غضباً وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وقد قدمنا في سورة الأعراف بسط ذلك، وذكرنا هناك حديث: ليس الخبر كالمعاينة[1]، وشرع يلوم أخاه هارون، فقال: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلّوَاْ أَلاّ تَتّبِعَنِ، أي: فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي، أي: فيما كنت قدّمتُ إليك، وهو قوله: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [سورة الأعراف:142]، قَالَ يَابْنَ أُمّ، ترقق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه؛ لأن ذكر الأم هاهنا أرق وأبلغ في الحنو والعطف، ولهذا قال: يَابْنَ أُمّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي الآية، هذا اعتذار من هارون عند موسى في سبب تأخره عنه حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب الجسيم، قال: إِنّي خَشِيتُ أن أتبعك فأخبرك بهذا، فتقول لي: لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي، أي: وما راعيت ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم، قال ابن عباس - ا -: وكان هارون هائباً مطيعاً له.

في قوله: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلّوَاْ ۝ أَلاّ تَتّبِعَنِ، الاتباع يحتمل أن يكون المراد به الاتباع حساً، ويحتمل أن يكون المراد به الاتباع معنى، أما الاتباع حساً فهو أن يفارقهم ويلحق موسى ، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، ويكون على هذا الاعتذار الذي تقدم به هارون حينما قال: إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي فرقت بينهم بمعنى أنك أتيت بطائفة وبقيت طائفة في مكان آخر، وأما إذا كان هذا الاتباع المقصود به أن يتبعه معنًى وذلك بأن يتبع سبيله ويكون هذا في الإنكار عليهم أو في مقاتلتهم والتغيير على هؤلاء الذين عبدوا العجل، أَلاّ تَتّبِعَنِ، قال: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي هو حينما أمره قال له: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [سورة الأعراف:142]، فإذا قيل الاتباع المقصود به الاتباع معنًى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ فيكون من الإصلاح أن يغيّر على هؤلاء، فكيف تركهم يعبدون العجل؟ وإذا كان الاتباع المقصود به الاتباع حساً بأن يفارقهم ويلحق بموسى فهو يقول له: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ فإذا فرقهم وجاء مع طائفة وترك طائفة فإنه يكون بذلك قد خالف أمره في ظاهر الحال، يحتمل هذا ويحتمل هذا، والله تعالى أعلم، والحاصل أن موسى هنا يقول: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلّوَاْ ۝ أَلاّ تَتّبِعَنِ، أي: فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي، أي: فيما كنت قدّمتُ إليك، فالحاصل أنه قال له: يَابْنَ أُمّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي، هو شقيقه فقال له: يَابْنَ أُمّ؛ لأن المخاطبة بذلك، وذكْر الوشيجة بالأم أدعى إلى الحنو والرأفة والرقة، لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي، هنا فيه كلام محذوف معلوم من السياق وهو أن موسى أخذ برأسه ولحيته كما قال الله : وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [سورة الأعراف:150]، فهارون عندها قال له: يَابْنَ أُمّ يستعطفه، لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرّقْتَ بَيْنَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي فإذا جاء ببعضهم وترك البعض، أو إذا جاء وقاتلهم؛ لأنه أنكر عليهم وغيّر فاستضعفوه وكادوا أن يقتلوه، فالشاهد أن هارون  قال له هذا، وقال له: فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء فيتندروا بي ويستهزئوا، وهذا يدل على أن هؤلاء الذين جاءوا ونجاهم الله من الغرق فيهم أعداء لهارون ، وفيهم أهل إفساد كما قال: وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [سورة الأعراف:142]، فهؤلاء الجمع الذين نجوا وصحبوا موسى  وهارون فيهم مثل هؤلاء الأشرار، وهم الجيل الأول والصفوة، والذين شاهدوا هذه الآية العجيبة وباقي الآيات العصا ونزول المن والسلوى عليهم، وحصل لهم الاجتباء والاصطفاء ومع ذلك كانوا بهذه المثابة، فالبقية ماذا يقال عنهم الآن؟ ماذا يقال عن هؤلاء الذين في زماننا هذا؟ قل ما شئت من الشر والفساد والإفساد محادّة لله - تبارك وتعالى -، يقول: وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي، يقول: أي وما راعيت ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم، قال ابن عباس: وكان هارون هائباً مطيعاً له، وبعضهم يقول: وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي يعني لم تنتظر قدومي حتى أقرر، إذا أتيت أقرر شيئاً أو ما أراه، ولكن هذا فيه بعد والأقرب هو ما سبق، وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي يعني فيما أمرتك به؛ لأنه إذا جاء، إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ۝ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي، فيقول: إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي، يعني: لم تنتظر حتى آتي ثم بعد ذلك أقرر شيئاً، لماذا استعجلت وأتيت مثلاً، انتظر حتى أرجع وعند ذلك أتخذ قراراً، هذا معنى آخر، والمشهور هو الأول وَلَمْ تَرْقُبْ يعني حيث أمرتك بالإصلاح وما سبق، والله أعلم.

  1. رواه الإمام أحمد في المسند برقم (1842)، وقال محققوه: حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، من حديث ابن عباس - ا -، والحاكم في المستدرك برقم (3250)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (9504).