الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ۝ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ ۝ فَلَمّا أَحَسّواْ بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ ۝ لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوَاْ إِلَىَ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْأَلُونَ ۝ قَالُواْ يَوَيْلَنَا إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ ۝ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتّىَ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ [سورة الأنبياء:10-15].

يقول تعالى منبهاً على شرف القرآن ومحرضاً لهم على معرفة قدره: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ قال ابن عباس - ا -: شرفكم.

أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أي: هذه النعمة، وتتلقونها بالقبول، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [سورة الزخرف:44].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله - تبارك وتعالى -: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ، يقول: "قال ابن عباس: أي شرفكم". والذكر يأتي بمعنى الشرف، تقول: فلان له ذكر بمعنى له شرف، ولا شك أن إنزال هذا القرآن على هذه الأمة على يد هذا النبي الأمي ﷺ شرف عظيم، حيث نزل بلسانهم، وعلى يد رجل منهم، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ [سورة الجمعة:2]، فهذا رفع من مكانهم ومنزلتهم وجعلهم في مقام الصدارة بين سائر الأمم، وإذا تمسكوا بهذا الكتاب وآمنوا به واتبعوا ما فيه حصلت لهم الرفعة في الدنيا والآخرة، وهذا المعنى الذي نقله المؤلف - رحمه الله - عن ابن عباس هو الذي اختاره كبير المفسرين أبوجعفر بن جرير - رحمه الله تعالى -، وقوله - تبارك وتعالى -: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ [سورة الزخرف:44]، من أهل العلم من فسره بهذا أي: شرف لك ولقومك، وبعضهم يقول: إن قوله: فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي: حديثكم، وبعضهم يقول: أي ذكر الحلال والحرام، وذكر أمر دينكم وشرعكم، وبعضهم يقول: أي بمعنى الموعظة، أي فيه موعظتكم، والموعظة يقال لها: ذكر، وما يحصل به التذكر يقال له: ذكر، فهذا القرآن ذكر يحصل به التذكر، والاتعاظ، والاعتبار، ويمكن أن تجتمع هذه المعاني - والله تعالى أعلم -، فإن هذا القرآن لا شك أنه شرف لهذه الأمة إن اتبعوه وتمسكوا به، وهو متضمن لما فيه التذكير، وقد حوى ألوان المواعظ، صرف الله فيه العبر والأمثال، وضمنه ما تحصل به الهداية والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.

ومثل هذا الاختصار - حينما يقتصر على إيراد هذا القول عن ابن عباس - قد يفهم منه أن المؤلف يختار هذا، والواقع أنه ليس كذلك، فمثل هذا في الاختصار لو كان بطريقة أخرى لكان أحسن، والله أعلم.

وقوله: وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً هذه صيغة تكثير، كما قال: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ [سورة الإسراء:17]، وقال تعالى: فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [سورة الحج:45] الآية.

صيغة التكثير في قوله: وَكَمْ أي: هي كثير تلك القرى التي قصمناها وهي ظالمة، وأصل القصم في كلام العرب يأتي بمعنى كسر الشيء ودقه، تقول: قصم الله ظهره، والفصم يأتي بهذا المعنى ولكنه دونه، يعني إذا كان القصم من غير إبانة فإنه يقال له: فصم، فإذا كان أقوى وأشد وحصل معه الإبانة يقال له: قصم، وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وهذا للتكثير، ولا حاجة لحمله على قرية بعينها، كما جاء في بعض الأخبار التي تُلقيت عن بني إسرائيل أنها قرية معينة من أرض اليمن، ويذكرون في هذا بعض الأخبار، لا حاجة إلى هذا، وما ذكره الله - تبارك وتعالى - بعده من قوله: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ ۝ لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوَاْ، لا يعني أن هذا يختص بقرية بعينها؛ لأن "كم" التي للتكثير تدل على أن هذا وقع كثيراً وتكرر، وأن هذا الذي حدث من أنهم يركضون، وقوله: لاَ تَرْكُضُواْ إلى آخره، لا يعني أن هذا وقع لأناس معينين، كما ورد أن هؤلاء الناس سمعوا صائحاً يقول: ارجعوا إلى مساكنكم، فرجعوا إلى مساكنهم، فسمعوا منادياً أيضاً يقول: يا لثارات نبي الله، يعني النبي الذي أساءوا إليه، وهذا لا حاجة إليه؛ لأن "كم" تدل على التكثير، فهذا أمر كثر وقوعه فلا يختص بقرية معينة، وهذا الذي يدل عليه ظاهر القرآن، والله تعالى أعلم.

وقوله وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ أي: أمة أخرى بعدهم، فَلَمّا أَحَسّواْ بَأْسَنَا أي: تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما وعدهم نبيهم، إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ أي: يفرون هاربين، لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوَاْ إِلَىَ مَا أُتْرِفْتُمْ.

وقال في قوله: فَلَمّا أَحَسّواْ بَأْسَنَا "أي تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما وعدهم نبيهم"، وبعض المفسرين يقول: فلما عاينوا بأسنا، عاينوا العذاب، وهذا لا يتنافى مع هذا القول أنهم أيقنوا، لمّا رأوه، وعاينوه، وإلا قبل ذلك كانوا يقولون: ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا [سورة الأعراف:77]، فهم لم يصدقوا خبره، ولا منافاة بين القولين، وبعضهم كالأخفش يقول: فَلَمّا أَحَسّواْ بَأْسَنَا أي: توقعوا عذابنا، والأمر -والله أعلم- فوق هذا، فهو ليس مجرد توقع وإنما أيقنوا وعرفوا بما عاينوا وشاهدوا، عند ذلك حصل منهم هذا الذي ذكره الله - تبارك وتعالى -، فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ وليس بمجرد التوقع.

طبعاً، يقول: إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ الركض أصله: ركَضَ الفرسّ، أي أنه - كما هو معلوم - إذا حرك رجليه، فضربه بهما، كما يفعل راكب الدابة، هذا أصله، ثم بعد ذلك قيل للجري، فصارت العرب تعبر تعبيراً أوسع من هذا، ولو لم يفعل ذلك برجله بل لو أطلق الفرس وحده، يقال: ركضَ الفرسَ أي أجراه، وصار يقال لمن يجري ولو لم يكن راكباً يقال: ركض، يركض، ولكن أصله ركضه برجله بمعنى أنه يحرك رجليه كما يفعل راكب الدابة، هذا يقال له: ركضه برجله، ركض الدابة برجله، ما يقال: ركضها برجله، وإن كان يصح التعبير بهذا، لكن يقال: ركض الدابة، بمعنى أنه برجله جعل يحرك رجليه، يضربها برجليه في جنبيها من أجل أن تسرع، هذا الأصل، ثم صار يقال لكل جري، كما يقال في اليمين: أصلها مع الحلف الأخذ باليمين، تأكيداً للقول بالفعل، ثم صار ذلك يقال لكل حلف، وهكذا في عدد من الأشياء في كلام العرب كان لها أصل معين، ثم بعد ذلك توسعوا في التعبير عنها.