وقال سبحانه: وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ لَوْ يَعْلَمُ الّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ [سورة الأنبياء:37-40].
يخبر تعالى عن المشركين أنهم يستعجلون أيضاً بوقوع العذاب بهم تكذيباً وجحوداً وكفراً وعناداً واستبعاداً، فقال: وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، قال الله تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ أي: لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا به، ولو يعلمون حين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [سورة الزمر:16]، لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [سورة الأعراف:41]، وقال في هذه الآية: حِينَ لاَ يَكُفّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ، وقال: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [سورة إبراهيم:50]، فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم.
ذكر الله - تبارك وتعالى - جهتين حين لا يكفون النار عن الوجوه والظهور، فذكر الوجوه والظهور - والله تعالى أعلم - ليدل على الإحاطة، وهذا يكثر ذكره في القرآن، وهو معروف في كلام العرب، الله يقول: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:115] فهذا لبيان أن جميع ما في هذا الكون ملك لله ، يعني والشمال والجنوب، فيذكر الجهتين ليدل على الباقي، ولهذا أورد الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هذه الآيات التي تدل على إحاطة النار بهم من كل جانب، أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [سورة الكهف:29]، ومثل هذه النماذج في تفسير ابن كثير وهي كثيرة لا تكاد تخلو منها صفحة، هذه كلها مفيدة في تفسير القرآن بالقرآن، وهو الجانب الذي يعتني به الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ، المهاد الذي يكون تحتهم، مثل مهاد الصبي، كالفراش، وهنا وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ، لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ إلى غير هذا من الآيات.
تبهتهم: يعني تَفْجؤهم، وبعضهم يقول: تحيرهم، وبين هذه المعاني ملازمة، إذا فجأته فإنه يتحير، لا يدري كيف يصنع، كيف يتصرف للمفاجأة، فهو لم يسبق له استعداد من أجل أن يزوّر في نفسه تصرفاً، يتهيأ لشيء يفعله، فيستسلمون لها حائرين.
قال بعضهم: الضمير في قوله: فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّهَا يرجع إلى النار، أي: لا يستطيعون رد النار التي تحرقهم وتحيط بهم من كل جانب، وبعضهم يقول: راجع إلى الوعد، بتأويله بالعدة، فهم يتساءلون يقولون: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، فقال الله: لَوْ يَعْلَمُ الّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّهَا يعني: العدة، وإن كان هذا يحتمل، لكن الذي قبله أوضح منه - والله تعالى أعلم - في المعنى، فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّهَا يعني: النار التي ذكرها الله - تبارك وتعالى -، وقوله - تبارك وتعالى -: لَوْ يَعْلَمُ الّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النّارَ إلى آخر ما ذكر، لم يذكر جواب "لو"، وجواب "لو" يحذف في مواضع كثيرة ثقة بفهم السامع، إذا كان ذلك يدرك، وذلك يكون في بعض المقامات أبلغ، في أحوال من التخويف والتهويل، أو الترغيب أيضاً، فأنت قد تقول لآخر: لو تعلم ما ينتظرك، لو تدري، يعني لما قلت كذا، يعني لما فعلت كذا، وأحياناً يذكر، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً[1].
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة:101]، برقم (4345)، من حديث أنس، ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره ﷺ وترك إكثار سؤاله، برقم (2309).