هذا التركيب في قوله - تبارك وتعالى -: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ النفي هنا معناه ما جعلهم جسداً متصفاً بهذه الصفة، هم أجساد فالنفي هنا بهذا القيد، ليس النفي أن يكونوا من ذوي الأجساد، وإنما النفي نفى وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً من صفته كذا، هم جسد لكن النفي مسلط على هذا المذكور بالقيد الذي بعده، والجسد هنا مفرد وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً أي: ذوي أجساد، والله جعلهم ذوي أجساد، لكن لم يجعلهم جسداً متصفاً بهذه الصفة أنه لا يطعم، لا يأكل الطعام، وإنما جعلهم جسداً يأكلون الطعام، وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، فهم يريدون أن يكونوا ملائكة، فالله يقول: أولئك الرسل - عليهم الصلاة والسلام - كانوا يأكلون ويشربون، وقال عن عيسى ﷺ وأمه: كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ [سورة المائدة:75]، فهذه طبيعة البشر، ولو أرسل الله إليهم ملائكة فإنهم لا يتمكنون من الأخذ والتلقي عنهم، وسيعتذرون بذلك، أي بأن هؤلاء الملائكة لا يصلحون للاقتداء؛ لأن الله أعطاهم من الإمكانات والقُدَر إضافة إلى أنه لا توجد فيهم نوازع الشهوات، وما ركبت الأهواء في نفوسهم، فالله أرسل إليهم بشراً يأخذون عنهم ويفهمون عنهم، ويشاكلونهم في أحوالهم، بل أكثر من هذا أن الله - تبارك وتعالى - بعث لهؤلاء الأميين رسولاً منهم، ليكون ذلك أدعى للأخذ عنه، وأقرب إلى أحوالهم، ويفهمون عنه، الأميون لو جاءهم فيلسوف فإنهم لا يتمكنون من فهمه والأخذ عنه، فالفيلسوف إذا تكلم لا تدري ماذا يقول، لا تفهم عنه شيئاً، ولهذا يقال: إذا أردت أن تقتل الفيلسوف فضعه بين العوام، يتكلم بأشياء، العوام يقولون: هذا مجنون، وهو عند نفسه أعلى شيء.