الإثنين 19 / ذو الحجة / 1446 - 16 / يونيو 2025
وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [سورة الحـج:27] أي: نادِ في الناس بالحج، داعياً لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذُكر أنه قال: يا رب وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال: نادِ وعلينا البلاغ، فقام على مقامِه وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه - من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة - لبيك اللهم لبيك، وهذا مضمون ما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف، والله أعلم، أوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة.

كثير من المفسرين وأصحاب السير يرددون هذه الحكاية، ولكن لا أعلم أنها تثبت بإسناد صحيح، والله تعالى أعلم.

قال - رحمه الله تعالى -: وقوله: يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [سورة الحج:27] قد يَستدلّ بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشيا لمن قدر عليه أفضلُ من الحج راكبا؛ لأنه قدمهم في الذكر، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم، وقال وكيع عن أبي العميس عن أبي حلحلة عن محمد بن كعب عن ابن عباس - ا - قال: "ما آسَى علي شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا؛ لأن الله يقول: يَأْتُوكَ رِجَالا"، والذي عليه الأكثرون أن الحج راكبا أفضل؛ اقتداء برسول الله ﷺ، فإنه حج راكبا مع كمال قوته .

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله - تبارك وتعالى -: يَأْتُوكَ رِجَالا يعني: غير ركبان، يعني مشياً على الأقدام، يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ والضامر هو العير المهزول الذي قد أعياه طول السفر هذا المراد هنا - والله تعالى أعلم -، والمضمر عموماً من الإبل والخيل، يقال: لما حصل له ذلك بسبب التعب وطول السفر، ويقال ذلك: لمن فعل به ذلك؛ لأنهم كانوا يضمرون الخيل مثلاً للحرب، وذلك بأن تعلف وتطعم بصورة جيدة، ثم بعد ذلك توضع في مكان بارد ويوضع عليها من الأغطية ما تعرق معه جداً فيذهب ما بها من شحم فلا يبقى فيها إلا المتماسك بحيث تكون قوية تتحمل الكر والفر والسفر والمشي الطويل ونحو ذلك، لكن المراد هنا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ هذا المهزول الذي قد أذهب ما به من لحم لطول السفر، والله أعلم .

وقدّم المشاة على الركبان في قوله سبحانه: يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ؛ للاهتمام بهم وقوة هممهم، وشدة عزمهم، لكن هل يدل على أن الحج مشياً على الأقدام أفضل؟ وما المراد بالحج على الأقدام؟ أيخرج الإنسان من بلده على قدميه أو أن المراد به أن الإنسان ينتقل بين المناسك على قدميه؟ فالثاني هو المقصود في كلام أهل العلم في تفضيل الماشي على الراكب عند مَن فضّله كما جاء في أثر ابن عباس ، ولمَا ذكر عن الحسن بن علي أنه حج خمساً وعشرين حجة على قدميه والنجائب تقاد بين يديه، فقد يأتي الإنسان على راحلة من بلده فإذا جاء مكة صار يتجول بين المناسك على قدميه، وهذا الذي يبدو أن الحسن وغيره فعلوه ممن يرون فضل الحج ماشياً لا أنه قَدِم على قدميه من العراق أو من المدينة، والجمهور من أهل العلم على أن الحج راكباً أفضل؛ لأنه فعل النبي ، والذين قالوا: إن الحج على الأقدام أفضل اعتذروا عن فعل النبي ﷺ بأنه فعلَ ذلك للحاجة، بحيث يراه الناس فيقتدوا به في مناسك الحج؛ لأنه قال لهم: خذوا عني مناسككم[1]، فركب دابته ﷺ من أجل هذا، وعامة أهل العلم على أن الحج راكباً أفضل؛ لفعل النبي ﷺ، والذي يحتاج إلى بيان أنّ تقصّد المشقة في العبادة غير مطلوب للشارع، ويدل على هذا أدلة كثيرة، منها قول النبي ﷺ: إن الله لغنيٌّ عن تعذيب هذا نفسه[2]، أو كما قال ﷺ في الرجل الذي وقف في الشمس والنبي ﷺ يخطب، فقالوا: إنه نذر أن لا يستظل ويصوم، فتقصُّدُ المشقة في العبادة غير مطلوب، وقول النبي ﷺ لعائشة - ا -: إن أجرك على قدر نَصَبك[3]، لا يفهم منه بحال أن تقصّد التعب مطلوب من أجل كثرة الأجر، وإنما المقصود به المشقات العارضة التي تحصل للإنسان من غير طلب، بمعنى لو كان الإنسان مثلاً يستطيع أن يرمي الجمار في وقت لا يشق عليه بسبب الزحام، وكذلك فيما يتعلق بحر الشمس فلا يتقصد الذهاب في شدة الزحام أو في وقت شدة الحر من أجل المشقة، فهذا غير مقصود للشارع ولا مطلوب، ومثل هذا لا يقال فيه: إن الأجر يطلب بمثل هذه المشقات، فلا يتقصد الإنسان المشي في الحج من أجل الأجر، لكن ينظر فيما هو أصلح لقلبه وأحسن له وأنفع، وكذا فقد يكون ركوبي في السيارة أصعب عليّ من المشي؛ لأني في السيارة أجلس سبع ساعات وأنا أنتظر في مسافة لا تتجاوز لربما سبعة كيلو مترات، أجلس في السيارة حتى الوضوء لا أستطيع أن أتوضأ، ولا أستطيع أن أنزل لأتوضأ، يدخل وقت الصلاة ويخرج وأنا جالس في السيارة، ورائحة السيارات وما أشبه ذلك، فالمشي أرفق بي؛ لأني لا أتوقف، وأنا أنشط للمشي، يقال له هذا هو الذي يصلح لك، وآخر يقول: أنا إذا مشيت تعطلت يحصل لي من آثار المشي ما يجعلني أعجز عن القيام لكثير من الأعمال تنشل الحركة، فيقال في مثل هذا: اركب، فمثل هذه الأمور يراعى فيها حال الإنسان - والله تعالى أعلم -، لكن لا يتقصد المشقة، وقوله - تبارك وتعالى - هنا: يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ فهنا قال: يَأْتِينَ بصيغة الجمع، وذلك باعتبار المعنى، وقوله: وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ فـ"كل" تدل على العموم يعني: ضوامر فهي بمعنى الجمع، وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ أي: هذه الضوامر تأتي، مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أي من كل طريق، وعَمِيقٍ أي بعيد، وكلمة عميق تستعمل في البعد من الناحية الأفقية، وكذلك البعد من ناحية العمق، وهذا أكثر ما يستعمل به هذا اللفظ، يقال: بئر عميقة، حفرة عميقة، في العمق، ويقال ذلك في البعد، فيقال: ناحية عميقة، يعني بعيدة، وهكذا طريق عميق أي طويل، ويمكن أن يقال: إنه قدم ذكر الرجال هنا، يَأْتُوكَ رِجَالا أي: ليُفهِم معنى، أو قد يُفهَم معني - لا يقال هذا تعليل للتقديم -، من تقديم يَأْتُوكَ رِجَالا أو على الأقل ذكر الرجال هنا من أجل ألا يفهم أن الحج لا يجب إلا على من ملك الراحلة، ولهذا فإن الكثيرين يفسرون الاستطاعة في الحج مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [سورة آل عمران:97] فيقولون: من ملك الزاد والراحلة، وليس ذلك بشرط؛ لأن الله قال: يَأْتُوكَ رِجَالا فقد يستطيع الإنسان أن يأتي بدون راحلة كأهل مكة، فالزاد والراحلة ليست من شروطه، لكن إذا كان لا يتوصل إلى الحج إلا بالراحلة، فتكون من باب مالا يتم الواجب إلا به، أما أن يجعل هذا من الشروط على الإطلاق، فهذا يحتاج إلى دليل، ولا دليل على هذا، وبعض أهل العلم يقول: إنه قدم المشاة جبراً لقلوبهم، وخواطرهم؛ فإنه لربما يحصل لهم نوع تنقص من قبل الركبان، يقولون: هؤلاء لا يجب عليهم الحج، فلماذا يفعلون ذلك بأنفسهم؟، يعني حينما تمشي القافلة، يمشي الناس على الإبل كما هو معروف في السباق تجد مقطورة طويلة من الإبل، كل بعير يربط بالآخر، ويمشون بطرق في الصحراء، صحيح أنها غير مرصوفة لكنها معروفة، مسالك في الصحراء يسلك الناس عليها في الأسفار قديماً، ولا زالت بعض آثارها موجودة إلى اليوم، وطرق الحجاج في التنقل في المشاعر بعض آثارها موجودة إلى اليوم، فالشاهد أن الناس كانوا يمشون على طرق - يعني يسلكها السالكون قبلهم -، ومنهم الذين يمشون على أقدامهم مع هذه القافلة، أو هذه الرواحل وربما نظر إليهم الركبان وقالوا: إن هؤلاء قد حملوا أنفسهم أمراً، فالله ذكر المشاة قبلُ، هذا ذكره بعض أهل العلم، لكن مثل هذه المعاني الملتمسة لا يقطع بها، يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [سورة الحج:27] وكل هذا يدل على أن الأصل في الحج المشقة، وليس اليسر، والنبي ﷺ قال لعائشة - ا - لما سئل عن الجهاد وهل على النساء؟ فقال: عليكن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة[4]، فسماه جهاداً، وبعض أهل العلم أدخله في عموم قوله: فِي سَبِيلِ اللّهِ - مصارف الزكاة -، قالوا: سواء هؤلاء يأتون على أقدامهم، أو الذي يأتي على هذا البعير المهزول من طول السفر، يأتي من أماكن بعيدة جداً، ولذلك فإن طلب الراحة في الحج، وأن يكون ذلك مقصوداً للناس وهدفاً كما هو الحاصل لدى الكثيرين هذا خلاف الأصل في السفر، ولهذا يوطن الإنسان نفسه على المشقة ولا يتقصد الترف في حجه، ولا يطلب المشقة في نفس الوقت، لكنه يوطن نفسه على الصبر، يصبر ويتحمل إذا فاته شيء من لذاته ولا يجزع، ولا يشتم الحجاج، ولا يبطل حجه بما يصدر منه من الأقوال، والأفعال بسبب أنه وجد أمورا غير مألوفة، هذا زاحمه، وهذا ضايقه، وهذا نام في فراشه، وهذا جلس في مكانه، فهذا لا يليق.

وقال - رحمه الله -: وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم، حيث قال في دعائه: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [سورة إبراهيم:37] فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار.

هذا المعنى تكلم عليه ابن القيم - رحمه الله - كلاماً جيداً، وذكر من آثار دعوة إبراهيم ﷺ أنه ما يفرغ الإنسان من المناسك ويرجع إلى بلده إلا وحن إليه مرة أخرى، وهذا من خصائص مكة، وهكذا الناس بهذه الصورة المستمرة يشتاقون إليها ويحنون إليها، وهذا الحنين لا يوجد لبلد آخر، وإنما يسافر الإنسان مرة لبلدٍ ما إذا كان له حاجة فيه، فإذا قضاها رجع منه ولا يعاوده الحنين إلى هذا البلد، بخلاف مكة، وهذا لا يوجد في المدينة.

  1. رواه مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا وبيان قوله ﷺ لتأخذوا مناسككم، برقم (1297).
  2. رواه مسلم، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، برقم (6323).
  3. رواه مسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، وجواز إدخال الحج على العمرة ومتى يحل القارن من نسكه، برقم (1211).
  4. رواه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب الحج جهاد النساء، برقم (2901)، وأحمد في المسند، برقم (25322)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، وابن خزيمة في صحيحه، برقم (3074)، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل برقم (981).