قوله: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [سورة الحـج:58] المعنى المتبادر للهجرة: الانتقال من البلد التي لا يستطيع أن يقيم دينه فيها إلى بلاد يستطيع أن يقيم دينه فيها، هذا معنى الهجرة، ولا يشترط أن تكون الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام؛ لأن المسلمين انتقلوا في البداية من مكة وكانت بلد كفر إلى الحبشة وهي بلد كفر أيضاً، فهو ينتقل من بلد لا يستطيع إقامة الدين فيها إلى بلد يأمن على نفسه، ويستطيع أن يقيم دينه وعبادته وشعائره في تلك البلاد، هذه الهجرة، فهذا هو المعنى المتبادر وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سورة الحـج:58] انتقلوا من بلادهم إلى بلاد أخرى لإقامة دينهم.
والآية تحتمل أيضاً معنى أوسع من هذا، وهو كل من ترك بلده وموطنه في مرضاة الله وفي سبيله؛ ولهذا جاءت بعض الآثار عن بعض الصحابة في هذا المعنى، في الذين خرجوا غازين فحصل لهم موت أو قتل، فهذا وإن كان لا يتبادر إلى الذهن من معنى قوله: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا [سورة الحـج:58] أنه من خرج غازياً، لكن من الصحابة من حمل الآية على هذا؛ ولهذا فإن من أهل العلم من يفسرها بهذا المعنى الواسع، فيقول: إن هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أولى ما يدخل فيها الانتقال، انتقل من موطنه انتقالاً نهائياً، انتقال هجرة.
ويدخل فيها كل من خرج من موطنه ولو خروجاً مؤقتاً لإعزاز الدين، خرج في سبيل الله، ما معنى خرج في سبيل الله؟ خرج لإعزاز الدين، ويمكن أن يقال: للدعوة إلى الله - تبارك وتعالى - فهي داخلة في هذا، ولا أقصد ما يصطلح عليه بعضهم من تقنين ذلك بمدد معينة يسمونها الخروج، كـ أربعة أشهر، أو شهر، أو أربعين يوماً أو ثلاثة أيام، أو أربعة أيام، هذا ما أنزل الله به من سلطان، لا أقصد هذا، حتى لا يفهم الكلام على غير وجهه، وإنما خرج في سبيل الله، خرج غازياً أو مهاجراً أو داعياً إلى الله فمات بهذا الطريق أو قتل، فإن الله قال: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سورة الحـج:58] إذاً المعنى المتبادر هو الانتقال من موطنه إلى موطن آخر، بمعنى الهجرة المعروفة، هل يدخل فيها ما وراء ذلك؟ كل خروج وانتقال من بلدة ولو مؤقت لإعزاز الدين يحتمل الدخول؟ بعض الصحابة فسروا بمثل هذا، والشوكاني كان يرى الحمل على المعنيين.
كما قال تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: 100].
وقوله: لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا أي: ليُجْريَن عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ.
هنا الرزق الحسن هو الجنة، وما فيها من النعيم المقيم، وبعضهم يقول: الغنائم التي يحصلون عليها حينما يقاتلون أعداء الله ، وبعضهم يفسر ذلك بالعلم النافع، والفهم الصحيح، وشعيب ﷺ يقول: "ورزقني منه رزقاً حسناً" قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ [سورة هود:88] ففسر الرزق الحسن بالعلم والفهم، ولكن الأقرب هنا في تفسيره -والله أعلم- هو الجنة؛ لأنه قال: لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ [سورة الحـج:59] وهذا المدخل هو الجنة.
هذا يفسر أيضاً لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وكذلك أيضاً في قوله - تبارك وتعالى -: وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ [سورة النساء:100] هذا كله تفسره هذه الآية.
وأما من تُوفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر، فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه، وعظيم إحسان الله إليه.
روى ابن أبي حاتم عن شُرَحْبِيل بن السِّمْط، قال: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم، فمر بي سلمان - يعني: الفارسي -، فقال: إني سمعت رسول الله يقول: من مات مرابطًا أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر، وأجرى عليه الرزق، وأمن من الفتّانين،واقرءوا إن شئتم: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ[1].
وروي أيضاً عن عبد الرحمن بن جَحْدَم الخولاني حدثه: أنه حضر فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين، أحدهما أصيب بمنجنيق، والآخر توفي، فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى، فقيل له: تركت الشهيد فلم تجلس عنده؟ فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثتُ، إن الله يقول: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا [سورة الحـج:58] الآيتين، فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلاً ترضاه، ورزقت رزقًا حسنًا؟، والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت.
- تفسير ابن أبي حاتم (ج9/ص391) (14842).