يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة الحج:73-74].
يقول تعالى منبها على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ أي: لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به، فَاسْتَمِعُوا لَهُ أي: أنصتوا وتفهموا، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي: لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك.
قوله تعالى: ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ الإشكال الذي عند الكثيرين في معنى المثل، وكثرة الاضطراب الذي تجده في كلام كثير من أهل العلم هو الذي جعل الكثيرين منهم في تفسير هذه الآية يقول بأقوال مخالفة تماماً لأقوال بعض السلف في الآية، والمثل له معنى في اللغة، وله معنى عند الأدباء، وله معنى عند البيانيين، والمثل الذي نردده ونقول مثلاً: قال المثل، كما في المثل غير مراد في كتاب الله، ولا يوجد شيء من هذه الأمثال بالمعنى الذي عند الأدباء مثل: مَن عَزّ بَزّ، من غلب استلب وما شابه ذلك من العبارة المختصرة الوجيزة المعبرة التي قيلت في مناسبة، ثم صارت تذكر فيما شابهها، هذا غير موجود في القرآن؛ لأن الله لا يتمثل بكلام أحد من الناس؛ فالله أعظم وأجل شأناً، فالمراد بالمثل في القرآن بعض أهل العلم يُرجع ذلك في جميع استعمالاته إلى أنه يعود إلى معنى الشبه - متصل بمعنى الشبه -، ولهذا يقولون: قياس التمثيل إلحاق فرع بأصل، وقياس الفقهاء في حكم لعلةٍ جامعةٍ بينهما فيه شبه، ولكن هذا لا يتأتى في كل المواضع التي ذكر فيها لفظ المثل، فالمثل يأتي بمعنى الشبه ويأتي بمعنى الصفة، نقول: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [سورة محمد:15] يعني صفة الجنة، وهذا عبر به كثير من السلف وأئمة التفسير، ولا حاجة للتحمل والتكلف في إرجاع ذلك إلى الشبه، فالمثل أحياناً يطلق على معنى فيه شيء من المقايسة، وهذا له تعلق بموضوع الشبه، وهكذا حينما يقال: تصوير المعنى بصورة محسوسة، وإبراز المعنى المعقول بصورة حسية مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17]، هذا حال المنافق وتردده أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [سورة البقرة:19] إبراز المعاني المعقولة بصورة محسوسة يقربها إلى الإفهام هذا يقال له: مثل، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يوسع ذلك جميعاً، والواقع أن هذا من صنيع شيخ الإسلام، وإذا استُبعدت المقدرات الذهنية عندنا في معنى المثل فهو الذي يمكن أن يشمل المواضع المذكورة في القرآن، وشيخ الإسلام يرى أن المثل يطلق على كل ما يحصل به الاتعاظ، والاعتبار من إبراز معنى المعقول، أو ذكر القصص، والأخبار، وكل هذه الأشياء هي أمثال، ولهذا يقول الله : وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ [سورة العنكبوت:43]، ويكون في الأمور التي يحصل بها التشبه مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17]، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [سورة الأعراف:176] وأحياناً لا يذكر لفظ المثل أصلاً أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ [سورة الرعد:17] ثم قال: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ [سورة الرعد:17]، فشيخ الإسلام يرى أن قصص الأنبياء هذه من قبيل الأمثال، فإذا قيل أمثال القرآن: يدخل فيها كل هذه الأمور، والمعاني التي يحصل بها الاتعاظ، والاعتبار، ويدخل فيها ما يذكر من الأوصاف، كصفة الجنة ونحو هذا، فوسعه جداً، أوسع الإطلاقات، أو التفسيرات للمثل هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهذا يُحل به إشكالات، والذين استشكلوا لفظة المثل أن تذكر في غير المعاني التي تسبق إلى أذهانهم قالوا: ما فيه مثل هنا ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ذكر صفة الآلهة المعبودة من دون الله ، ولهذا فإن بعضهم قال: ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إن الكفار ضربوا لله مثلاً بهذه الآلهة المعبودة فجعلوا لها شأنا، وأضفوا عليها من صفات الآلهة - وهي جمادات لا تنفع ولا تضر - فوُجد نوع من المشابهة بإعطاء هذه المعبودات أوصافاً أكبر مما تستحق، وجعلوا لها أوصاف الإلهية، شبهوها بالخالق، فهم يريدون أن يرجعوه إلى الشبه، هذا الذي حمل بعض المفسرين على أن يقول في ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ: إن الكفار ضربوا لله مثلاً بجعل آلهة مزعومة تعبد من دونه - تبارك وتعالى - أضفوا عليها أوصاف الإلهية شبهوها بالخالق، الله يقول: ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ معناه أن ما سيأتي بعده هو المثل، وهؤلاء قالوا: ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ضُرب مثل: أن الكفار ضربوا لله المثل، فأبطل الله ذلك بقوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لكن هذا تفكيك للكلام ولا يدل عليه السياق، ولهذا فإن المثل المضروب هو الذي ذكر الله ، والتشبيه فيه، إذا قلنا: إن المثل دائماً يرجع إلى معنى التشبيه، ومن وقف عند هذه القضية وقال: المثل لابد فيه من تشبيه حاول أن يوجد نوعاً من الارتباط بين التشبيه، أقول: لا حاجة لمثل هذا التكلف، فالمثل يطلق على الصفة، فهذه حال وصفة هذه المعبودات من دون الله - تبارك وتعالى -، والمثل كما يقول ابن قتيبة: من عبد آلهة لم تستطيع أن تخلق ذباباً وإن يسلبها الذباب شيئاً لا تستطيع أن تستنقذه منه، ولهذا يعبر بعضهم كالنحاس فيقول: ضرب الله مثلاً للآلهة المعبودة من دون الله ؛ لأنها بهذه المثابة لا تستطيع أن تخلق أحقر الأشياء، ولا تستطيع أن تستعيد ما أخذه هذا المخلوق الضعيف منها، فهو مثل لهذه الآلهة المُدّعاة.
كما قال الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعا قال: ومن أظلم ممن خلق خلقا كخلقي؟ فليخلقوا مثل خلقي ذَرّة، أو ذبابة، أو حَبَّة[1].
وأخرجه صاحبا الصحيح، من طريق عُمَارة، عن أبي زُرْعةَ، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: قال الله : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة[2].
ثم قال تعالى أيضا: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْه أي: هم عاجزون عن خلق ذباب واحد، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه، لو سلبها شيئًا من الذي عليها من الطيب، ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك. هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها، ولهذا قال: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ.
قال ابن عباس: الطالب: الصنم، والمطلوب: الذباب. واختاره ابن جرير، وهو ظاهر السياق، وقال السدي وغيره: الطالب: العابد، والمطلوب: الصنم
- رواه أحمد في المسند، برقم (9082)، وقال محققوه: حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف من أجل شريك النخعي.
- رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [سورة الصافات:96]، برقم (7120)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه، وأن الملائكة - عليهم السلام - لا يدخلون بيتا فيه صورة ولا كلب، برقم (2111).