الأحد 20 / ذو القعدة / 1446 - 18 / مايو 2025
قَالُوا۟ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَآلِّينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ۝ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ۝ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [سورة المؤمنون:105-107].

هذا تقريع من الله - تعالى - لأهل النار، وتوبيخ لهم على ما ارتكبوا من الكفر، والمآثم، والمحارم، والعظائم؛ التي أوبقتهم في ذلك، فقال: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أي: قد أرسلت إليكم الرسل، وأنزلت الكتب، وأزلت شُبَهكم، ولم يبق لكم حجة تدلون بها كما قال: لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [سورة النساء:165]، وقال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [سورة الإسراء:15]، وقال: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ۝ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ۝ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ۝ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ [سورة الملك:8-11]، ولهذا قالوا: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ أي: قد قامت علينا الحجة، ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها، ونتبعها، فَضَللنا عنها، ولم نُرْزَقْها.

ثم قالوا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ أي: رُدَّنا إلى الدار الدنيا، فإن عدنا إلى ما سلف منا؛ فنحن ظالمون، مستحقون للعقوبة كما قالوا: فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ۝ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [سورة غافر:11-12] أي: لا سبيل إلى الخروج؛ لأنكم كنتم تشركون بالله إذا وحّده المؤمنون".

قوله - تبارك وتعالى -: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ وذكر الله - تبارك وتعالى - في موضع آخر أنه لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ [سورة الرحمن:39] وهنا يسألهم، كذلك يقال لهم: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [سورة المدثر:42] والجواب عن هذا مثل ما سبق من أن يوم القيامة يوم طويل، وفي بعض الأحايين يُسألون، وفي بعضها لا يُسألون، أو أنهم لا يُسألون سؤال استعتاب وإنما يسألون سؤال تبكيت، وهذا يكون أشد، فإن من وقع بمصيبة، وتورط، ثم جاءه من يعاتبه، ويقول له: ألم أقل لك كذا؟ ألم أنهك عن كذا؟ فإن ذلك يكون في غاية الإيلام للنفس، وقوله - تبارك وتعالى عنهم -: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ابن كثير - رحمه الله - يقول: أي قد قامت علينا الحجة، ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها، وهذا القول قريب، وله وجه لا يخفى - والله تعالى أعلم -، وابن جرير - رحمه الله - يفسر ذلك بما سبق في علم الله لهم من القدر، والكتاب على هؤلاء بالشقاوة رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا أي: ما سبق في علمك من الشقاوة، وهذا ذكره ابن جرير غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ذاك الرجل الذي قال للنبي ﷺ وكان من المنافقين، وتاب، وفي قصة تبوك في قوله: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [سورة التوبة:65] قال: يا رسول الله قعد بي اسمي، واسمُ أبي، وكان اسمه مخشن بن حمير، فقال: قعد بي اسمي، واسم أبي، وابن جرير - رحمه الله - هنا يقول: إن القدر هو المراد هنا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وهذا القول وإن كان لا يوجد ما يمنع منه من الأدلة باعتبار أن ما جرى في القدر لا بد أن يكون؛ ولكن هل هؤلاء يعتذرون بالقدر يوم القيامة عند الله ؟، وبعضهم يقول: غلبت علينا لذاتنا، وشهواتنا، وشقاوتنا، فغلبت علينا لذاتنا، وشهواتنا، فسماه شقوة؛ لأنه يئول إلى الشقاء، يعني أنه أطلق عليه ذلك باعتبار ما يلزم منه، ويئول إليه غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا يعني شهواتنا، ولذاتنا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا، وهذه القراءة غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا هي قراءة عاصم - نقرأ بها، قراءة أهل المدينة - وأبي عمرو، وقراءة البقية غَلَبَتْ عَلَيْنَا شَقَاوَتُنَا، والشِّقوة والشَّقاوة في أصل المعنى واحد، والمقصود أن ما ذكره ابن كثير - رحمه الله - هنا لعله هو أقرب هذه الوجوه، وإن كان ما ذكر ليس ببعيد غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا قامت علينا الحجة، ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا - والله أعلم -.

قال العلامة الشنقيطي - رحمه الله -: "وقوله هنا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ الظاهر أن معنى قوله: غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا أن الرسل بلغتهم، وأنذرتهم، وتلت عليهم آيات ربهم، ولكن ما سبق في علم الله من شقاوتهم الأزلية غلب عليهم، فكذبوا الرسل؛ ليصيروا إلى ما سبق في علمه - جل وعلا - من شقاوتهم، ونظير الآية على هذا الوجه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة يونس:96-97]، وقوله عن أهل النار: قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة الزمر:71] إلى غير ذلك من الآيات، ويزيد ذلك إيضاحاً قوله ﷺ: كلٌّ ميسر لما خلق له[1]، وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ [سورة التغابن:2]، وقوله: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [سورة هود:118-119] على أصح التفسيرين"[2].

وقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ على هذا الوجه خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ الفاء للتعقيب المباشر، فحينما خلقهم خلق قوماً للجنة، وخلق قوماً للنار كما في الحديث: وأما الغلام فقد طُبع كافراً[3] الذي قتله الخضر، والمعنى الثاني في الآية: فَمِنكُمْ كَافِرٌ أن التعقيب بالفاء يكفي كل شيء بحسبه خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ المعنى أن الله خلقهم وهدى كل فريق كما قال الله : وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد:10]، وبيَّن لهم ما يتقون؛ فمنهم من آمن، واتبع الرسل، ومنهم من كفر، وأعرض، لكن هذا القول الثاني في هذه الآية: فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ يقول به بعض أهل البدع مثل المعتزلة الذين يقولون: إن الإنسان يخلق فعله، وينفون القدر؛ فيقولون بهذا القول باعتبار أنه يختار، وأن ذلك لم يقدر عليه، وهذا غلط، ولكن يمكن أن يصحِّح هذا الوجه أنه قد قال به بعض السلف - وهم أبرياء من قول القدرية - باعتبار أن الله قدَّر عليه في الأزل، ولكن المقصود في معنى الآية هذه فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ المقصود بها فمنكم من سلك طريق الإيمان لما وصل إلى حد الإدراك، والفهم، والعلم، والمعرفة، وكذا منكم من اختار طريق الكفر، فهذا إذا قال به أحد من أهل السنة فإن ذلك إما أن يكون مقبولاً صحيحاً، أو غاية ما هنالك أن يكون من قبيل الغلط في التفسير، أقصد أنه لا يقدح في الاعتقاد، ولكن القول أحياناً يقوله صاحب بدعة فيقصد به تأييد المذهب مثل الذي يفسر بعض آيات الصفات بتفسيرات قد تكون وردت عن بعض السلف، لكن السلف يثبتون أصل الصفة مثلاً في قوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [سورة القصص:88] فمن قال ممن فسرها: إن هذه ليست من آيات الصفات أصلاً كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فمثل هذا لا يعتبر من القدح في الاعتقاد، غاية ما هنالك عند غير الموافق أن هذا خطأ في التفسير كما يرى ابن القيم مثلاً - رحمه الله -، لكن شيخ الإسلام يثبت صفة الوجه بالأدلة الأخرى، وكقوله - تبارك وتعالى -: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ [سورة القلم:42]، فمن أهل العلم - وهو مروي عن ابن عباس - من قال: إن الساق الكرب، هذا معنى معروف في لغة العرب، فمن فسرها بهذا وهو يثبت صفة الساق كما جاء في الحديث: فيكشف عن ساقه[4]، قال: لا يمكن أن يؤول، فلا إشكال، فغاية ما هنالك عند المخالف أن هذا من قبيل الخطأ في التفسير فحسب، لكن إذا جاء المبتدع الذي ينفي الصفات وقال: يُكْشَفُ عَن سَاقٍ أي كرب، واحتج بما جاء عن ابن عباس فهذا نقول له: لا، ونرد عليه، فيقع هذا في بعض المواضع، فبعض أهل البدع قد يوافقون عبارة لبعض السلف، ولكنهم يُجرون ذلك على مذهبهم الفاسد.

 قال الشنقيطي - رحمه الله -: "وهذا الذي فسرنا به الآية هو الأظهر الذي دل عليه الكتاب، والسنة، وبه تعلم أن قول أبي عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية: وأحسن ما قيل في معناه غلبت علينا لذاتنا، وأهواؤنا، فسمى اللذات، والأهواء؛ شقوة لأنهما يؤديان إليها كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [سورة النساء:10]؛ لأن ذلك يؤديهم إلى النار؛ تكلفٌ مخالف للتحقيق، ثم حكي القرطبي ما ذكرنا أنه الصواب بقيل، ثم قال: وقيل حسن الظن بالنفس، وسوء الظن بالخلق، ولا يخفى أن الصواب هو ما ذكرنا - إن شاء الله تعالى -"[5].

فهنا ضعّف قول القرطبي باعتبار أن المتبادر من الظاهر، والأكثر، والأسرع وروداً على الذهن غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا أن المقصود به الشقاء، وليس سبب الشقاء، هو يريد هذا، ولكن ما ذكره ابن كثير - رحمه الله -: قامت علينا الحجة، ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها؛ قول لا تكلف فيه، - والله أعلم - فهنا الشنقيطي - رحمه الله - ما أورد هذا القول، ولا أجاب عنه.

  1. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله - تعالى -: ولقد يسرنا القرآن للذكر برقم (7112)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته، وسعادته، برقم (2649).
  2. أضواء البيان (5/358).
  3. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الكهف، برقم (4449).
  4. رواه البخاري،  كتاب التوحيد، باب قول الله - تعالى -: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22-23]، برقم (7001).
  5. أضواء البيان (5/358).