السبت 19 / ذو القعدة / 1446 - 17 / مايو 2025
قَٰلَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى ٱلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ۝ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ۝ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ۝ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [سورة المؤمنون:112-116].

يقول تعالى منبهاً لهم على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله - تعالى -، وعبادته وحده؛ ولو صبروا في مدة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤه المتقون، قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ أي: كم كانت إقامتكم في الدنيا؟ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ أي: الحاسبين

قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا أي: مدة يسيرة على كل تقدير لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: لما آثرتم الفاني على الباقي، ولما تَصَرَّفتم لأنفسكم هذا التصرف السّيئ، ولا استحققتم من الله سخطه في تلك المدة اليسيرة، ولو أنكم صبرتم على طاعة الله، وعبادته - كما فعل المؤمنون -؛ لفزتم كما فازوا.

روى ابن أبي حاتم عن صفوان عن أيفع بن عبد الكَلاعي؛ أنه سمعه يخطب الناس فقال: قال رسول الله ﷺ: إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قال: يا أهل الجنة! كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، قال: لنعم ما اتَّجَرتم في يوم، أو بعض يوم، رحمتي، ورضواني، وجنتي، امكثوا فيها خالدين، مخلدين، ثم يقول: يا أهل النار! كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فيقول: بئس ما اتَّجَرتم في يوم، أو بعض يوم، ناري، وسخطي، امكثوا فيها خالدين، مخلدين[1]".

هذا يحتاج أن يراجع من حيث الثبوت، والصحة، وقوله - تبارك وتعالى -: قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ كلام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - جيد، قال: أي الحاسبين، ولم يشتغل بما اشتغل به كثير من المفسرين من أن المقصود بذلك الملائكة، أو أن المقصود من يجيد الحساب، والعد من بني آدم أو غير ذلك، فالله قال عنهم: فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ اسئل الحاسبين أيًّا كان هؤلاء، وقوله: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ۝ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ بعضهم يقول: المقصود به مدة البرزخ يعني بعد الموت إلى النفخ في الصور، وأن المقصود أن هذه مدة قصيرة قليلة، والأقرب - والله تعالى أعلم - أن المقصود بذلك مدة البقاء في الدنيا، فالحياة أيضاً قصيرة، وحينما يوافي الإنسان يدرك هذا المعنى أن حياته كانت كأنها حلم إذا انقشع، ولهذا يقول الله : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [سورة الروم:55] مع أن المدة التي يقضيها الإنسان في فترة البرزخ إذا بعث فإنها - والله تعالى أعلم - بالنسبة إليه تكون قصيرة، ولذلك يشبه إلى حد ما حال النائم، فإن النائم ينقضي عليه الوقت بصورة أسرع - كما هو معلوم - من المستيقظ، ولذلك تجد الإنسان أحياناً لربما يريد أن يقضي الوقت - إما لفراغ ممل، أو لهمٍّ قد أشغله - بالنوم، لهذا تجد الإنسان من بعض الناس البطالين إذا كان صائماً في رمضان، ويريد أن يقضي اليوم، ويطوي النهار ماذا يفعل؟ الحل في نظره هو النوم، ينام فما يستيقظ إلا على الإفطار، ولا يشعر بشيء، ويكون هذا الوقت الطويل كله كأنه عشر دقائق من الانتظار وهو مستيقظ، ولهذا أصحاب الكهف لما بقوا فترة وهي تشبه فترة البرزخ فهذه المدة الطويلة ثلاثمائة وتسع سنوات لما قاموا، وتساءلوا؛ فأجاب بعضهم قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [سورة البقرة:259] فترة البقاء في البرزخ ليست كالعد الذي يكون في الدنيا بالنسبة لهؤلاء، ولكن هنا ما المراد هل المراد به البرزخ، أو المراد به الحياة الدنيا؟ الأقرب - والله أعلم - أن المراد الحياة الدنيا بمتعها، وإن كان القول بأن المراد البرزخ يعني ليس بقول شاذ، أو بعيد، أو منكر - والله تعالى أعلم -، والشنقيطي - رحمه الله - له كلام في ذكر الآيات الواردة فقال - رحمه الله -: "قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ۝ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ: وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا سُئِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ قَدْرِ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا أَجَابُوا بِأَنَّهُمْ لَبِثُوا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى أَنَّهُمْ أَجَابُوا بِغَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا [سورة طه:103] وَالْعَشْرُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [سورة الروم:55].

وَالسَّاعَةُ أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ، وَقَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [سورة النازعات:46]، وَقَوْلِهِ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [سورة يونس:45]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ [سورة الأحقاف:35] .

وَقَدْ بَيَّنَّا الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فِي كِتَابِنَا: "دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ" فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وَيَقُولُ بَعْضٌ آخَرُ مِنْهُمْ: لَبِثْنَا سَاعَةً، وَيَقُولُ بَعْضٌ آخَرُ مِنْهُمْ: لَبِثْنَا عَشْرًا.

وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ - تَعَالَى - بَيَّنَ أَنَّ أَقْوَاهُمْ إِدْرَاكًا، وَأَرْجَحَهُمْ عَقْلًا، وَأَمْثَلَهُمْ طَرِيقَةً؛ هُوَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ مَا لَبِثُوا إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ۝ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [سورة طه:103-104] فَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي اخْتِلَافِ أَقْوَالِهِمْ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا إِشْكَالَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -"[2].

  1. تفسير ابن أبي حاتم (8/2511)، برقم (14060).
  2. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/361-362).