الإثنين 24 / جمادى الآخرة / 1447 - 15 / ديسمبر 2025
إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ۝ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ [سورة المؤمنون:23-25] يخبر تعالى عن نوح حين بعثه إلى قومه لينذرهم عذاب الله، وبأسه الشديد، وانتقامه ممن أشرك به، وخالف أمره، وكذب رسله فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ [سورة المؤمنون:23] أي: ألا تخافون من الله في إشراككم به؟ فقال الملأ وهم السادة والأكابر منهم: مَا هَذَا إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضّلَ عَلَيْكُمْ يعنون يترفع عليكم، ويتعاظم بدعوى النبوة، وهو بشر مثلكم، فكيف أوحي إليه دونكم؟ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَة [سورة المؤمنون:24] أي: لو أراد أن يبعث نبياً لبعث ملكاً من عنده، ولم يكن بشراً ما سمعنا بهذا؛ أي ببعثة البشر في آبائنا الأولين، يعنون بهذا أسلافهم، وأجدادهم في الدهور الماضية، وقوله: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ [سورة المؤمنون:25] أي: مجنون فيما يزعمه من أن الله أرسله إليكم، واختصه من بينكم بالوحي فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي: انتظروا به ريب المنون، واصبروا عليه مدة حتى تستريحوا منه.

قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ۝ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ۝ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ۝ وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ۝ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ [سورة المؤمنون:26-30] يخبر تعالى عن نوح أنه دعا ربه ليستنصره على قومه كما قال تعالى مخبراً عنه في الآية الأخرى: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ [سورة القمر:10] وقال ههنا: رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ [سورة المؤمنون:26] فعند ذلك أمره الله - تعالى - بصنعة السفينة، وإحكامها، وإتقانها، وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين أي ذكراً وأنثى من كل صنف من الحيوانات، والنباتات، والثمار وغير ذلك، وأن يحمل فيها أهله إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ [سورة المؤمنون:27] أي من سبق عليه القول من الله بالهلاك، وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله كابنه، وزوجته، والله أعلم.

وقوله: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ [سورة المؤمنون:27] أي: عند معاينة إنزال المطر العظيم لا تأخذنك رأفة بقومك، وشفقة عليهم، وطمع في تأخيرهم لعلهم يؤمنون، فإني قد قضيت أنهم مغرقون على ما هم عليه من الكفر والطغيان، وقد تقدمت القصة مبسوطة في سورة هود بما يغني عن إعادة ذلك ههنا، وقوله: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة المؤمنون:28] كما قال: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ۝ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ۝ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [سورة الزخرف:12-14] وقد امتثل نوح هذا كما قال تعالى: وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْراهَا وَمُرْسَاهَا [سورة هود:41] فذكَرَ الله - تعالى - عند ابتداء سيره، وعند انتهائه، وقال تعالى: وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [سورة المؤمنون:29]، وقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ [سورة المؤمنون:30] أي: إن في هذا الصنيع وهو إنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين؛ لآيات أي لحججاً، ودلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاءوا به عن الله - تعالى -، وأنه تعالى فاعل لما يشاء، قادر على كل شيء، عليم بكل شيء، وقوله: وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ [سورة المؤمنون:30] أي: لمختبرين للعباد بإرسال المرسلين".

فقوله - تبارك وتعالى -: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ [سورة المؤمنون:23]، قال بعض أهل العلم: أَفَلَا تَتَّقُونَ الشرك والكفر؟ وبعضهم يقول غير هذا، والأقرب أن يفسر بما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، فتقوى الله تشمل ذلك جميعاً، فلا تشركون به، ولا تعصونه.

وقوله: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ [سورة المؤمنون:24] الملأ هم الأشراف، قيل لهم الملأ لأنهم يتمالئون على الأمر بمعنى أنهم أهل الحل والعقد، والرأي، والنظر في الأمور، أو لأنهم يملئون صدور المجالس باعتبار أنهم هم المقدمون، فهذا يرجع إلى ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - من أنهم الأشراف، والكبراء، وأهل الوجاهة.

وقوله: فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ [سورة المؤمنون:25] أي: انتظروا به ريب المنون، واصبروا عليه مدة حتى تستريحوا، ويمكن أن يقال: انتظروا حتى ينكشف أمره، ويتبين حاله، أو أنه يرتفع ما به من علة، ويذهب ما به من جِنّة، ويفيق.

وقوله - تبارك وتعالى -: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [سورة المؤمنون:27] هذه الآية تدل على إثبات صفة العين، فإن ذلك لا يضاف لمن كان فاقداً لهذه الصفة من هذا الوجه، والمعنى: اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا يعني: على مرأى منا، وهذا يدل على رعاية الله وعنايته كما قال الله : فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [سورة الطور:48] فهو محل عناية الله ، ورعايته، وحفظه، وكلاءته، لكنه كما سبق فيه إثبات صفة العين لله على ما يليق بجلاله، وعظمته، فمن هذه الآية وغيرها من الآيات التي ورد فيها هذا المعنى تَثبتُ لله هذه الصفة.

وقوله: وَوَحْيِنَا يعني: أنه يفعل ذلك بأمر الله - تبارك وتعالى - لا من عند نفسه، فالله هو الذي أمره بذلك، وأوحى إليه هذا، ولهذا يقولون: إن أول من تعاطى النجارة هو نوح - عليه الصلاة والسلام -، وإن معلمه الأول هو جبريل - عليه الصلاة والسلام -.

قال: فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [سورة المؤمنون:27] سبق الكلام على التنور، وقلنا: إن الأرجح أنه التنور الذي يخبز به، وأما ما جاء من أنه تنور آدم يعني الذي يخبز به فهذا قد ورد في بعض الإسرائيليات لكنه لا يعول عليه، والمقصود أن يفسر التنور بما يعرف من كلام العرب في معناه الأشهر، والأكثر استعمالاً، وهو المتبادر إلى أذهان السامعين: المكان الذي يخبز به، المحل الذي تعرفون، وإن كان بعض السلف فسره بغير هذا كقول بعضهم: إنه وجه الأرض، ولكن لا يفسر القرآن إلا بالأشهر، والأغلب؛ لأنه هو الظاهر المتبادر.

وقوله - تبارك وتعالى -: وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا [سورة المؤمنون:29]، هذه الآية فيها قراءتان: القراءة الأولى: وهي قراءة الجمهور مُنزَلًا بالضم، وفي قراءة أخرى هي رواية عن عاصم مَنْزِلاً، والمَنزِل اسم مكان، ومُنزلاً مصدر يعني: أنزلني إنزالاً مباركاً، فهذان معنيان، وكل قراءة لها معنى، وإذا كان في الآية أكثر من قراءة، ولكل قراءة معنى، فإن ذلك يكون من باب تنوع القراءات، وينزل بمنزلة تعدد الآيات، إذا كان لكل قراءة معنى؛ فقراءةٌ تدل على أنه دعا ربه أن ينزله في مكان مبارك، والقراءة الثانية أن الله ينزله إنزالاً مباركاً؛ لا يختص بالمكان، وإنما يكون ذلك الإنزال المبارك، فهو أعم، وأشمل، فيدخل فيه المكان، ويدخل فيه الزمان - والله تعالى أعلم -.

وبعض أهل العلم أخذ من هذه الآية أن الإنسان إذا أراد أن ينزل في مكان فعليه أن يقول هذه الآية، وقد علمنا النبي ﷺ إذا أردنا أن ننزل في مكان أن نقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق[1].

  1. رواه مسلم، كتاب الذكر، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء، ودرك الشقاء وغيره (4/ 2080)، برقم: (2708).