قوله - تبارك وتعالى -: ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [سورة المؤمنون:31] يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرناً آخرين قيل: المراد بهم عاد، فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم، وقيل: المراد بهؤلاء ثمود" ثم بعد ذلك في ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في عقوبتهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ [سورة المؤمنون:41] قال: "والظاهر أنه اجتمع عليهم صيحة مع الريح الصرصر، العاصف، القوي، البارد"، وهذا يدل على أن المقصود بهم قوم عاد، وكبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - يرى أنهم ثمود، وحجته أن الذين أُخذوا بالصيحة هم قوم ثمود، أما قوم عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية، والذين يقولون بأن هؤلاء ثمود كما هو ظاهر كلام ابن كثير حينما ذكر عقوبتهم قال: والظاهر أنه جمع، يقولون جرت العادة في القرآن أن الله إذا ذكر هؤلاء الأمم يذكر بعد قوم نوح عاداً بعدهم، ثم يذكر ثمود؛ هذا في جميع المواضع التي تذكر فيها هذه الأمم، فتذكر بهذا الترتيب، وهذا يشكل عليه ما احتج به ابن جرير - رحمه الله - ومن سبقه، ومن جاء بعده أيضاً من أن عاداً أهلكوا بالريح فما هو الجواب؟
يعني هؤلاء عندهم مرجح هو أن العادة في القرآن أن هؤلاء هم عاد، وأولئك عندهم مرجح أن العقوبة التي ذكرت هي الصيحة، والصيحة كانت لثمود، فلا بد من الجواب عن هذا الاستدلال الذي يستدل به ابن جرير ومن وافقه، والجواب هو ما ذكره ابن كثير - رحمه الله - أن الله جمع عليهم هذا وهذا، ولذلك تجدون في بعض العقوبات يذكر الله الصيحة في موضع، ويذكر الرجفة في موضع، فالعلماء يقولون: صاح بهم الملَك، ورجفت بهم الأرض؛ فيذكر الله تارة هذا، وتارة هذا.
وهذا من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، ونحن نعرف أن تفسير القرآن بالقرآن هو أعلى التفسير في الجملة حيث الجنس، ولكن قد يخطئ المفسر فيربط بين الآية وآية، ولا يوفق في هذا، ولهذا يقال: إن تفسير القرآن بالقرآن يدخله الاجتهاد، فتارة يكون من قبيل الغلط البين، وتارة يكون محتملاً كما في الآية السابقة، وتارة نجزم به نقطع كما في قوله - تبارك وتعالى -: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة النحل:118] قاله في سورة النحل، والذي قصه من قبل يمكن أن نفسره، ونحن نجزم بهذا؛ وذلك في سورة الأنعام، وكلاهما من المكي، وهو قول الله - تبارك وتعالى -: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا [سورة الأنعام:146].
وكذلك قوله - تبارك وتعالى -: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ [سورة الفاتحة:6-7] والصراط المستقيم هو المفسَّر في قول الله - تبارك وتعالى -: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [سورة النساء:69]، فالذين أنعم الله عليهم هم هؤلاء.
فهذه أمثلة مفيدة لطالب العلم الذي يعتني بهذه الأشياء، ولو بحث عنها لربما لا يجدها، ولهذا دائماً أقول لطالب العلم: ينبغي أن يدون هذه الأشياء، فيجتمع عنده في النهاية أشياء في غاية الأهمية.
وقوله - تبارك وتعالى -: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ [سورة المؤمنون:35-36] أي: بعيد بعيد ذلك، وهيهات اسم فعل بمعنى بَعُد.
وقوله - تبارك وتعالى -: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [سورة المؤمنون:37] بعض العلماء يقول: هناك تقديم وتأخير، والمعنى نحيا ونموت، والواو لا تقتضي الترتيب، لكن نحن نعرف في القاعدة: أن الأصل في الكلام الترتيب، فلا يُدّعى التقديم والتأخير إلا لضرورة، فمهما أمكن حمل الكلام على تفسير يبقي فيه السياق القرآني على حاله من غير دعوى التقديم، والتأخير؛ فهذا هو الأولى في التفسير، وهو المرجَّح، وفي قوله - تبارك وتعالى -: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ يمكن أن نفسر الآية بتفسير يتفق مع ظاهرها، ويكون المعنى يموت بعضنا، ويحيا آخرون، وهذا معنى جيد وقريب، وهو الذي اختاره كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -.
ومثال ذلك في القرآن قول الله - تبارك وتعالى -: فَإِن قَتلوكم فَاقْتُلُوهُمْ [سورة البقرة:191] وهذه قراءة متواترة، والقراءة التي نقرأ بها: فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [سورة البقرة:191] وهذه القراءة لا إشكال فيها، لكن: فَإِن قَتلوكم فَاقْتُلُوهُمْ لاسيما أن التعقيب بالفاء؛ كيف تقتلونهم إذا متم ولا تستطيعون قتلهم؟ والمعنى فإن قتلوا بعضكم فاقتلوهم، فأضاف ذلك إلى الجميع، والمقصود البعض، وهذا موجود في كلام العرب، وله شواهد كثيرة.
في قوله: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ [سورة المؤمنون:41] يعني: أن ذلك الأخذ وقع متلبساً بالحق بمعنى أن ذلك لم يكن بظلم لهم، وإنما هم مستحقون لهذا.
قوله: فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة المؤمنون:41] الغثاء هو الشيء الحقير الذي لا شأن له، يطفو على الماء، تحمله المياه، والسيول فهو خفيف، ليس له وزن، ولا شأن له، ويكون من قش ونحوه، وإذا أردت أن تتصور هذا المعنى كيف يكون الإنسان بهذا الحجم الذي يرى نفسه أنه صاحب قامة؛ كيف يكون غثاء مثل القش؟ انظروا وتذكروا الصور التي عرضت في التوسونامي رأيتم البشر كيف كانوا مثل الغثاء، ومثل الحطام بين الأخشاب، وبيوتهم صارت متقطعة، متهشمة، والبشر بينها كأنهم قش على الماء هم، وأخشابهم، وبقايا البيوت؛ حطمهم الماء، ولهذا قال الله عن عاد كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [سورة الحاقة:7] أعجاز النخل: أي أصول النخل.