السبت 23 / محرّم / 1447 - 19 / يوليو 2025
فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا [سورة المؤمنون:53] أي الأمم الذين بعثت إليهم الأنبياء".

فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا يعني: فرقاً، وقطعاً مختلفة، زبراً والواحدة يقال لها زبور يعني: الفرقة، والطائفة المتناحرة.

"كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [سورة المؤمنون:53]، أي: يفرحون بما هم فيه من الضلال لأنهم يحسبون أنهم مهتدون، ولهذا قال متهدداً لهم، ومتوعداً: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ أي: في غيهم، وضلالهم حَتّىَ حِينٍ أي: إلى حين حينهم، وهلاكهم".

فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [سورة المؤمنون:54] الأقوال التي يذكرها المفسرون ترجع إلى معنى واحد يقال: فلان في غمرة كأنه شبههم بمكان يغمره الماء ويغطيه، فهؤلاء القوم في غمرة.

فمن قال: إنهم في سكرة، ومن قال: إنهم في غفلة، وكل هذه المعاني ترجع إلى شيء واحد فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: "في غيهم، وضلالهم"، فكل ما يغمرك، ويعلوك؛ يقال له غمرة، والمقصود أنهم في غيهم، ولهوهم، وشهواتهم، وغفلتهم، وإعراضهم، وضلالهم.

والغمرة تحجب الإنسان عن رؤية الحق، فهو سادر في غيه، فرِحٌ بما هو فيه، ومستمر في باطله؛ يزداد فيه حيناً بعد حين، وقد يستغرب أهل البصيرة والإيمان ممن هو في غمرة فيقولون: هذا ما يشعر؟ هذا ما يحس؟ هذا ما يشعر أن أجله قريب؟  هذا ما يخاف أن الله يأخذه، أن الله يعاقبه؟ متى يتوب؟ هذا الإنسان قد بلغ من الكبر عتياً متى يرجع؟ متى يتوب؟ ما يخاف الموت؟ هذا في حال مرض، أو في حال عجز، وهو في غاية الضلال، والانحراف، والبعد عن الله، ومحادّته؛ ما يخاف من العقوبات؟

فنقول: هو لا يفكر بما يفكر فيه أهل البصيرة، والإيمان، فهو منغمس منهمك، قد غُطّى على قلبه، وبصيرته، فلا يرى هذه الأمور، ولا يفكر فيها، ولا تخطر له ببال، وقد قال الله - تبارك وتعالى -: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ۝ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ [سورة الأنعام:112- 113].

فهؤلاء القوم خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ [سورة البقرة:7]، فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [سورة البقرة:10] - والله المستعان -.

"كما قال تعالى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [سورة الطارق:17]، وقال تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [سورة الحجر:3]".

قوله: حَتَّى حِينٍ أي: إلى وقت انقضاء آجالهم بالقتل، أو الموت فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا يعني: قليلاً، فالحياة هذه قصيرة، وقليلة، وليست بشيء في ميزان الله - تبارك وتعالى -، وإن كان الإنسان يستطيلها.

نحن نعايش أحداث فلسطين، ونرى أن الساعات طويلة، وننتظر أخذ الله مع أن الإنسان أحياناً يتردد ببعض الكلمات في الدعاء، ويخشى أن يكون فيها شيء من التعدي، والاستعجال، وأحيانا الإنسان يندفع، ولا يستطيع أن يضبط مشاعره، فيقول - مثلاً -: "اللهم اجعلهم، وأولادهم، ونساءهم، وأسلحتهم، وأموالهم غنيمة للمسلمين"، فهذا من الاعتداء في هذا الوقت في الدعاء لأننا لسنا بأهل لهذا، فنحن في غاية التفرق والانقسام، والبعد عن الله ، والتعلق بغيره، وللأسف جراح مدمية ومرة، والنفوس تحتاج إلى كثير من التزكية، والترفع على حظوظها - وإلى الله المشتكى -، وقد قال النبي ﷺ: إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلًّاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم[1] فالله المستعان.

  1. رواه أبو داود، كتاب الإجارة، باب في النهى عن العِينة (3 / 291)، برقم: (3464)، وصححه الألباني.