"قوله: إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [سورة المؤمنون:57-61].
يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ [سورة المؤمنون:57] أي: هم مع إحسانهم، وإيمانهم، وعملهم الصالح؛ مشفقون من الله، خائفون منه، وجِلون من مكره بهم كما قال الحسن البصري: "إن المؤمن جمع إحساناً، وشفقة، وإن الكافر جمع إساءة وأمناً"، وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [سورة المؤمنون:58] أي: يؤمنون بآياته الكونية، والشرعية كقوله تعالى إخباراً عن مريم - عليها السلام -: وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ [سورة التحريم:12]، أي: أيقنت أن ما كان إنما هو عن قدر الله، وقضائه، وما شرعه الله فهو إن كان أمراً فمما يحبه ويرضاه، وإن كان نهياً فهو مما يكرهه، ويأباه، وإن كان خيراً فهو حق كما قال الله: وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ [سورة المؤمنون:59] أي: لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه، ويعلمون أنه لا إله إلا الله، أحداً صمداً، لم يتخذ صاحبة، ولا ولداً، وأنه لا نظير له، ولا كفء له".
فقوله - تبارك وتعالى -: إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ [سورة المؤمنون:57] هل الخشية والإشفاق من قبيل المترادف يعني الخشية هي الإشفاق كما يقوله بعض أهل العلم؟ أو أن الإشفاق يختلف عن الخشية في المعنى؟ أو أن إحدى اللفظتين استعملت في لازمها أو أثرها؟، ومعلوم أن التأسيس مقدم على التوكيد، فالقول بأن الإشفاق هو الخشية لا يعطي معنىً جديداً، ولهذا فإن من أهل العلم من فسر الخشية بسببها، وسببُها هو العذاب، فقالوا: إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ أي: من عذاب ربهم مشفقون، وبعضهم فسر الإشفاق بأثره إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ أي: عاملون بطاعته، مداومون على ذلك، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -، ولعل الأقرب - والله تعالى أعلم - أن يقال بأن معنى الخشية، والإشفاق، وإن اتفقا في أصل المعنى الذي هو الخوف إلا أن الخشية هي الخوف مع علم بالمخوف منه، ولكن قد يقول الإنسان: أنا خائف، وإن سُئِل: من ماذا تخاف؟ فقد يقول: لا أدري، وأشعر بشيء من الخوف، فمثل هذا لا يمكن أن يقول: أنا مشفق، أو أنا أشعر بشفقة، أو أشعر بخشية، إنما الخشية تكون مع علم، والإشفاق يتفق مع الخشية في أصل المعنى الذي هو الخوف، إلا أنه يفترق في المعنى التكميلي الزائد، وعليه يمكن أن يقال: إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ [سورة المؤمنون:57] من خشيته أي: من خوفه الخاص الذي علموا أسبابه، أو مع علم بالمخوف، وقد وقع لهم خوف، وخشية رقيقة، والخوف مراتب، كما أن الإيمان مراتب، والعلم مراتب، والرضا مراتب، والمحبة مراتب.
وقوله - تبارك وتعالى -: وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [سورة المؤمنون:58]، انظر إلى عبارة ابن كثير - رحمه الله -: "أي: يؤمنون بآياته الكونية، والشرعية" من أهل العلم من يقول: إن المراد بالآيات هنا الآيات الكونية، ومنهم من قال: إن المراد الآيات الشرعية، والمقصود بالآيات الشرعية مثل هذا القرآن.
وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - دقيق، جمع فيه بين القولين، وهذا جمع جيد وحسن؛ لأن الله ذكر الآيات مطلقة، فالآيات تشمل الآيات الكونية، والشرعية، وكلها تحتاج إلى إيمان.
والله أخبر عن فرعون فقال: وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ [سورة الأنعام:4]، وقال عن فرعون أيضاً: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى [سورة طه:56].
وقد تتابعت الأمم على اتهام الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الذين جاءوهم بالآيات قال تبارك وتعالى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ [سورة الحجر:14-15].
وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [سورة الإسراء:59] يعني آية مبصرة، فالآيات الكونية - آيات المشاهدة - لا بد فيها من الإيمان، وهذا التفسير أيضاً يصدق على قوله - تبارك وتعالى - عن مريم بنت عمران وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا [سورة التحريم:12] أي: الكلمات الكونية، والكلمات الشرعية.