"وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أي: بحجة، وشبهة، إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا أي: ولا يقولون قولاً يعارضون به الحق إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر، وأبين، وأوضح، وأفصح من مقالتهم.
وروى أبو عبد الرحمن النسائي عن ابن عباس قال: "أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة قال الله - تعالى -: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا[1]، وقال تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا [سورة الإسراء:106]".
فقوله - تبارك وتعالى - عن قول المشركين - قول الكافرين - مطالبين بنزول القرآن جملة: لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً "لولا" في هذا الموضع للتحضيض، هلا نزّل عليه القرآن جملة واحدة، و"لولا" إذا كانت في موضع يمكن في المستقبل، أو فيما يمكن الاستدراك فيه تكون بمعنى التحضيض تقول: لولا تجدّ من أجل أن تتعلم، هلا تجدّ، هلا تصلي من أجل أن يرضى ربك عنك مثلاً، هلا تصلي، وإذا كانت في أمر لا يمكن استدراكه فإنها تكون للتبكيت: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ [سورة هود:116] فهذه للتبكيت لأن تلك القرون قد أهلكها الله - تبارك وتعالى - المقصود أنها هنا للتحضيض يقول: لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً أي: كما أنزل على الأنبياء قبله، هذه الآية يستدل بها أهل العلم على نزول الكتب السابقة جملة واحدة، ووجه الاستدلال أن الله - تبارك وتعالى - حينما رد عليهم قال: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا بمعنى: أنه ذكر هذه العلة ولو كانت الكتب السابقة تنزل على الأنبياء كما نزلت على النبي ﷺ مفرقة لكان الرد: كذلك أنزلنا على الذين من قبلك يعني: الكتب كانت تنزل مفرقة، هذه سنة الله في إنزال الكتب، كما رد عليهم حينما اعترضوا على إرسال الرسول من البشر؛ فأخبر أنه إنما أرسل الرسل من البشر، وأنهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، وهنا ذكر علة لتنزيله على النبي الأمي - عليه الصلاة والسلام -: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ هذه الكاف يمكن أن تكون نعتاً لمصدر محذوف: كَذَلِكَ يعني: مثل ذلك التنزيل نزلناه لنثبت به فؤادك، مثل ذلك التنزيل يعني المفرق الذي قدحوا فيه، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ هل هذا من كلام المشركين أعني قوله: كذلك؟ من أهل العلم من قال هذا، وهو خلاف الظاهر المتبادر، وأن ذلك من كلام الله - تبارك وتعالى -.
وقوله - تبارك وتعالى -: وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا يقول هنا: قال قتادة: "بيّناه تبييناً"، وقال زيد بن أسلم: "فسرناه تفسيراً"، عبارات السلف في هذا متقاربة، فإن هذه اللفظة - هذه المادة الترتيل - تدل على معنى الترسل، وذلك بمعنى أنه ينزل شيئاً بعد شيء، وهذا من التبيين، ويفهمه ﷺ، ويحفظه، فإنه لم يكن - عليه الصلاة والسلام - كاتباً؛ ولهذا فإن قول بعض السلف: أن يكون آية بعد آية قريب من هذا المعنى، هذا بمعنى التمهل، والتؤدة، نزل شيئاً بعد شيء، وقول من قال كابن الأعرابي بأن الترتيل هو التحقيق، والتبيين وما أشبه ذلك، فالتحقيق، والتبيين؛ قريب مما سبق، فإن الهذرمة مثلاً في القراءة هي خارجة عن هذا الحد.
وعبارات السلف قريبة من هذا المعنى، ابن جرير يقول: الترسل، والتثبت ... شيئاً بعد شيء، أو آية بعد آية، فمثل هذا لا يحتاج إلى ترجيح - والله تعالى أعلم -، قال: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ يعني بحجة، وشبهة، وسبق الكلام كثيراً على معنى المثل، واستعمال هذه المادة في القرآن، وأن ما يظن في جميع المواضع أن المثل إنما يكون بتصوير المعقول في صورة المحسوس أن ذلك ليس بلازم، وأنه يشكل عليه بعض المواضع في كتاب الله - تبارك وتعالى -، وأن من أهل العلم من يربط بين المثل، والشبه، ويقول: إن أصله يرجع إلى ذلك، وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وقال به بعض أهل اللغة على هذا الاعتبار: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ هنا ليس فيه تصوير المعقول بالمحسوس يعني هذا غير الأمثال التي يضربها الله وهي مواطن العبر على أوسع ما فسرت به الأمثال كما قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله -: وهو أوسع ما وقفت عليه في تفسيرها، تفسير الأمثال، معنى المثل في القرآن كل ما فيه عبرة من قصص الأنبياء وأخبارهم، كل ما يعتبر به، وأن هذا فيه معنى الشبه لأصل المعنى اللغوي فيه تشابه بين الحالتين، حينما يذكر قصص الأنبياء والأمم المكذبة يعتبر الإنسان، والاعتبار: الانتقال، العبرة فيها انتقال من العين للخد كما يقولون، والعاقل من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه، فالعبرة أن يعتبر الإنسان، ينظر في حال ما وقع لغيره ثم يرجع إلى نفسه بعد ذلك، وهكذا العبّارة والمعبر التي يحصل بها الانتقال من ناحية لأخرى، فهنا: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ هذا ليس من مواطن العبر ولكن هنا يمكن أن يرتبط بأصل المعنى اللغوي الذي فيه معنى الشبه، وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أي: بشبهة، الشُّبه التي كانوا يعترضون بها على النبي ﷺ، وإن كان المثل يأتي أحياناً بمعنى الصفة كما في قوله: مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [سورة الرعد:35]، و[سورة محمد:15] وإن اعترض على هذا المعنى بعض أهل العلم، فالعلم عند الله ، وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أي: بحجة وشبهة، إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا.
- رواه النسائي في السنن الكبرى، برقم (11372).