الخميس 29 / ذو الحجة / 1446 - 26 / يونيو 2025
وَعَادًا وَثَمُودَا۟ وَأَصْحَٰبَ ٱلرَّسِّ وَقُرُونًۢا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ قد تقدم الكلام على قصتيهما في غير ما سورة كسورة الأعراف بما أغنى عن الإعادة".

يعني يكون هكذا: يقول الله عن قوم فرعون: فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ۝ وَقَوْمَ نُوحٍ أيضاً أهلكناهم، و"عاداً" معطوف على "وقومَ نوح" يعني هذا وجه النصب، والتدمير معناه الإهلاك، والإبادة، والاستئصال.

"وأما أصحاب الرس فقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس: "هم أهل قرية من قرى ثمود"، وقال الثوري عن أبي بُكَيْر عن عكرمة: "الرس بئر رَسُّوا فيها نبيهم؛ أي: دفنوه بها"".

كلام أهل العلم في الرس وأصحاب الرس كثير جداً، وابن جرير - رحمه الله - يقول: إن الرس يقال للبئر، ويقال للحفرة في الأرض، يقول: ولا نعلم مما قصه الله - تبارك وتعالى - في القرآن أن نبياً من الأنبياء جاء إلى قوم أو أن قوماً ممن قص الله خبرهم في القرآن كان لهم بئر أو لهم حفرة، يقول: إلا ما ذكره الله في أصحاب الأخدود، الأخدود هو الشق في الأرض، فابن جرير لا يستبعد في ظاهر كلامه أن يكونوا هم يعني على سبيل الاحتمال، يقول: إن كان هؤلاء وإلا فهم قوم ذكر الله خبرهم، وليس عندنا ما يدل على تفاصيل تتعلق بهم، والذي يذكره المفسرون أشياء كثيرة لا دليل عليها لا من الكتاب، ولا من السنة، وبعضهم يقول: قرية من قرى ثمود، وبعضهم يقول: هؤلاء كان لهم نبي، بعضهم يذكر خالد بن سنان، ولا تثبت نبوته، تجدون في مثل كتاب المعارف لابن قتيبة ذكر خبراً مطولاً في هذا المعنى، وهكذا أيضاً يقول بعضهم: إنها قرية من قرى اليمامة يقال لها: فَلَج أو فَلْج؛ قرية من قرى اليمامة، لا أدري يقصدون الأفلاج أو يقصدون شيئاً آخر، الشاهد أنه جاءهم نبي رَسُّوه في بئر يعني قبروه بالحجارة، وبعضهم يقول غير هذا، ولا دليل على شيء من ذلك.

قال الشوكاني - رحمه الله تعالى -: "وَأَصْحاب الرَّسِّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْبِئْرُ الَّتِي تَكُونُ غَيْرَ مَطْوِيَّةٍ"[1].

والبئر المطوية هي المبنية بالحجارة، بئر يكون على جوانبها بناء بالأحجار، هذا يقال لها: بئر مطوية، والبئر غير المطوية: مجرد حفر.

وقال الشوكاني - رحمه الله - أيضاً: " وَالْجَمْعُ رِسَاسٌ كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَهُمْ سَائِرُونَ إِلَى أرضهم تنابلة يحفرون الرِّسَاسَا

قَالَ السُّدِّيُّ: "هِيَ بِئْرٌ بِإِنْطَاكِيَةَ، قَتَلُوا فِيهَا حَبِيبًا النَّجَّارَ، فَنُسِبُوا إِلَيْهَا وَهُوَ صَاحِبُ يس الذي قال: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [سورة يس:20]"، وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ بِأَذْرَبِيجَانَ قَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُمْ؛ فَجَفَّتْ أَشْجَارُهُمْ وَزُرُوعُهُمْ، فَمَاتُوا جُوعًا، وَعَطَشًا، وَقِيلَ: كَانُوا يَعْبُدُونَ الشَّجَرَ، وقيل: كانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم شُعَيْبًا فَكَذَّبُوهُ، وَآذَوْهُ، وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا فَأَكَلُوهُ، وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّسَّ: هِيَ الْبِئْرُ الْمُعَطَّلَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَأَصْحَابُهَا أَهْلُهَا، وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالرَّسُّ اسْمُ بِئْرٍ كَانَتْ لِبَقِيَّةِ ثَمُودَ، وَقِيلَ الرَّسُّ: مَاءٌ وَنَخْلٌ لِبَنِي أَسَدٍ، وَقِيلَ: الثَّلْجُ الْمُتَرَاكِمُ فِي الْجِبَالِ، وَالرَّسُّ: اسْمُ وَادٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:

بَكَرْنَ بُكُورًا وَاسْتَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ

وَالرَّسُّ أَيْضًا: الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْإِفْسَادُ بَيْنَهُمْ، فَهُوَ مِنَ الأضداد، وقيل: هم أصحاب حنظلة بن صَفْوَانَ وَهُمُ الَّذِينَ ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالطَّائِرِ الْمَعْرُوفِ بِالْعَنْقَاءِ"[2].

هذا كله لا يصح، كل هذا مأخوذ من الإسرائيليات، والعنقاء لا حقيقة لها أصلاً، أصحاب الرس حينما يقول البئر: وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ [سورة الحج:45] يعني: لا يمكن أنه قال: وأصحاب القصر أيضاً قوم، وإنما يذكر الله الأمم المكذبة، والمهلَكة، فتعطلت مصالحهم، ومنافعهم، وما كانوا لربما يعتزون به ويفتخرون، ولربما يزدحمون عليه، فصار ذلك لا يرد عليه وارد، ولا يسكن فيه ساكن، خلت الديار وصارت بلاقع، إن الله أهلكهم فتعطلت تلك البئر التي كانوا يستقون منها، وتعطلت قصورٌ مِن ساكنيها بسبب عذاب الله - تبارك وتعالى - للمكذبين.

"وقوله تعالى: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا أي: وأمماً أضعاف مَن ذُكر أهلكناهم كثيرة، ولهذا قال: وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ أي: بيَّنا لهم الحجج، ووضحنا لهم الأدلة، كما قال قتادة: وأزحنا الأعذار عنهم، وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا أي: أهلكنا إهلاكاً كقوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [سورة الإسراء:17]، والقرن: هو الأمة من الناس كقوله: ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ [سورة المؤمنون:31] وحدَّه بعضهم بمائة وعشرين سنة، وقيل: بمائة".

قوله: وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا التتبير بمعنى التدمير، والإهلاك، وبعض أهل العلم يقول: إنه بمعنى دمر، هو بمعناه لا شك لكن بعضهم يقول: أُبدِل حرفان من دمر فصارت تبر، دمرنا: تبرنا، وهو بمعنى التدمير، تبرنا أي: دمرنا، وأهلكنا.

"وحدَّه بعضهم بمائة وعشرين سنة، وقيل: بمائة، وقيل: بثمانين سنة، وقيل: أربعين، وقيل غير ذلك، والأظهر أن القرن هو الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد، وإذا ذهبوا وخلفهم جيل آخر فهم قرن آخر".

هذا هو الأقرب - والله تعالى أعلم -، فالمتعاصرون في جيل واحد يقال لهم: قرن، فإذا انقرض ذلك الجيل يقال: انقرض ذلك القرن، وهذا الذي رجحه أيضاً الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -.

"كما ثبت في الصحيحين: خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم..[3] الحديث".

يعني التقديرات التي تذكر يعني من يقول: إنهم أو إنه يقدر بأربعين سنة، ومن يقول: إنه يقدر مثلاً بمائة وعشرين سنة، والذي قال: مائة وعشرين سنة قدر انقراض الجيل بكامله باعتبار أن الإنسان لا يكاد يصل إلى مائة وعشرين سنة، فيكون هذا الجيل انقرض يعني الناس الذين من أقرانه قد ماتوا، ومن قدره بأربعين فهؤلاء هم المتعاصرون، والجيل الواحد من المتعاصرين يمكن أن يقدر بمثل هذا؛ ولهذا ذكروا في التابعين ثلاث طبقات: كبار التابعين، وأوساط التابعين، وصغار التابعين، فإذا كان الفارق بين زيد وعمرو ثلاث أو أربع أو خمس سنوات أو سبع سنوات ونحو ذلك فهو من المقاربين له من قرنه، لكن حينما يكون كل صفحة تكون بأربعين سنة مثلاً فهذا جيل غير الجيل السابق، يعني بمعنى أن جيل الآباء غير جيل الأبناء وإن تعاصروا، وسبب هذا القول من أين نشأ فتقول: الآباء جيل، تقول: جيل الآباء غير جيل الأبناء؟، الأب يقول لأبنائه: في جيلنا كنا...، هذا جيل جديد، فهذا بماذا يقدر؟ يقدر بنحو أربعين سنة، وليس المقصود هنا التحديد في ما أذكره الآن، لا أقصد تحديد القرن بأربعين، لكن توجيه الأقوال فقط، ولهذا يحسن ألا يحد بسنين فيكون ذلك سبباً للإشكال، وإنما يقال: مَن تعاصروا، المتعاصرون في جيل واحد يمثلون قرناً، والفوارق اليسيرة في السنين بينهم غير مؤثرة، حينما نقول: القرن المنصرم، القرن الماضي، القرون التي كانت قبلنا - والله أعلم -.

  1. فتح القدير للشوكاني (4/89).
  2. المصدر السابق.
  3. رواه البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ، باب فضائل أصحاب النبي ﷺ، برقم (3650)، ومسلم، بلفظ: خير أمتي القرن الذين يلوني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم...، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، برقم (2533).