"وقوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا أي: يلبس الوجود، ويغَشاه كما قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [سورة الليل:1].
وَالنَّوْمَ سُبَاتًا أي: قاطعاً للحركة، لحركة الأبدان، فإن الأعضاء والجوارح تكل من كثرة الحركة في الانتشار بالنهار في المعاش، فإذا جاء الليل، وسكن؛ سكنت الحركات، فاستراحت، فحصل النوم الذي فيه راحة البدن، والروح معاً".
جعل الليل لباساً كما قال الله : وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى بمعنى أنه يعم بظلامه الكون أو ما كان فيه من الكون، فيحصل بذلك تغطيته للظلام، كاللباس الذي يغطي ويواري ما تحته.
قوله: وَالنَّوْمَ سُبَاتًا يقول هنا: أي قاطعاً للحركة، هذه المادة تأتي بمعنى القطع، السين والباء والتاء تأتي بمعنى القطع، قاطعاً للحركة، بمعنى: أن الناس يسكنون فيه، ويخلدون إلى الراحة، وبعض العبارات التي ذكرها السلف تعود إلى هذا المعنى، أو تقاربه، يعني من قال بأن الله جعل النوم سباتاً بمعنى: وقتاً للراحة، يعني: أنهم ينقطعون فيه عن الأعمال والأشغال التي ينتشرون فيها، ويزاولونها في النهار؛ ولهذا جعل النهار معاشاً، فالليل قاطع للحركة، وإذا كان قاطعاً للحركة حصل لهم السكون، والراحة.
وهناك معانٍ أخرى ذكرها بعضهم، وكون طالب العلم حينما يطالع أحياناً بعض المواضع في كتاب الله ، وينظر في أقوال المفسرين في الكتب التي تذكر الأقوال، والخلاف؛ فهذا يوسع الأفق من ناحية، وإن كانت بعض هذه الأقوال مستبعدة، فيزيد في مدارك الإنسان، لربما في كثير من المواضع يظن الإنسان لأول وهلة أنها لا تحتمل إلا قولاً واحداً، ولا يخطر بباله غير ذلك، فلمّا ينظر كثرة ما قيل فيها، والاحتمالات، وعلماء كبار وأئمة؛ هذا مُشرِّق، وهذا مُغرِّب؛ فإنه يكون بذلك أدعى إلى سعة الأفق، وأيضاً قوة الاستيعاب، ولهذا العلماء يقولون بأن الإنسان كلما ازداد علمه كلما ازداد يعني معرفةً بجهله؛ ولذلك تجد لربما العالم يُسأل عن مسألة يظن بعض الجهال أنها سهلة لا تحتاج إلى توقف، فيتوقف فيها، أو يتردد، أو إذا جاء يتكلم يزن الحرف، ويزن العبارة، وعنده احتياطات كثيرة، ومعانٍ كثيرة في ذهنه، فالعبارات فيها محترزات لا يدركها الجاهل، ولا تخطر له على بال، لكن لو جاء من يثير حول هذا الجواب إشكالات أو نحو ذلك فتجدها في الجواب، يعني يذكر له المحترزات التي قالها في الجواب لأنه مستحضر لهذه الاحتمالات وهذه الأمور، فتجد عبارات أهل العلم إنما يعقلها، وينتفع بها، ويدرك الإنسان ما وراءها إذا زاد بصره؛ ومعرفته بالعلم، كلما كان بالعلم أبصر، وأعرف كلما كان أقدر على فهم كلام أهل العلم، وهكذا في كلام الله - تبارك وتعالى - ترِد له أشياء، ومعانٍ، واحتمالات كثيرة جداً، ولهذا يزداد تحرزه، واحتياطه؛ حينما يتكلم في مسائل العلم، ويشعر أن ذلك من قبيل العبء الكبير، ويرجو أن يخرج منه كفافاً لا له، ولا عليه، وأما الجاهل فيلقي الكلام على عواهنه، ويقرأ كلام أهل العلم، ولا يدري ما تحته، ويتعجب، ويضيق صدره إذا سمع الخلاف، كيف يختلفون والقرآن واحد؟!.
قال الشوكاني - رحمه الله تعالى -: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً شَبَّهَ - سُبْحَانَهُ - مَا يُسْتَرُ مِنْ ظَلَامِ اللَّيْلِ بِاللِّبَاسِ السَّاتِرِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَصَفَ اللَّيْلَ بِاللِّبَاسِ تَشْبِيهًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَسْتُرُ الأشياء، ويغشاها"[1].
معنى النوم سباتاً:
وقال - رحمه الله -: "وَجَعَلَ النَّوْمَ سُبَاتًا أَيْ: رَاحَةً لَكُمْ لِأَنَّكُمْ تَنْقَطِعُونَ عَنِ الِاشْتِغَالِ، وَأَصْلُ السُّبَاتِ: التَّمَدُّدُ، يُقَالُ: سَبَتَتِ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا أَيْ نَقَضَتْهُ وَأَرْسَلَتْهُ، وَرَجُلٌ مَسْبُوتٌ: أَيْ مَمْدُودُ الْخِلْقَةِ، وقيل للنوم: سبات لِأَنَّهُ بِالتَّمَدُّدِ يَكُونُ، وَفِي التَّمَدُّدِ مَعْنَى الرَّاحَةِ، وَقِيلَ: السَّبْتُ: الْقَطْعُ، فَالنَّوْمُ انْقِطَاعٌ عَنِ الِاشْتِغَالِ، وَمِنْهُ سَبْتُ الْيَهُودِ لِانْقِطَاعِهِمْ عَنِ الِاشْتِغَالِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: السُّبَاتُ النَّوْمُ، وَهُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالرُّوحُ فِي بَدَنِهِ، أَيْ: جَعَلَنَا نَوْمَكُمْ رَاحَةً لَكُمْ"[2].
فكل هذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد يعني: سواء قيل التمدد، فهذا متعلق بالراحة، وهكذا إذا قيل بأنه القطع كل هذا يرجع إلى معنى واحد.
وقال - رحمه الله -: "وَقَالَ الْخَلِيلُ: السُّبَاتُ نَوْمٌ ثَقِيلٌ، أَيْ: جَعَلَنَا نَوْمَكُمْ ثَقِيلًا لِيَكْمُلَ الْإِجْمَامُ وَالرَّاحَةُ"[3].
لا يقصد بالنوم الثقيل ما يتعارف عليه الناس اليوم من كون هذا الإنسان لا يدرك ولا يشعر بمن يوقظه، ولا يتفطن، ولا يتنبه لمن نبهه أو نحو ذلك، فلا يسمع شيئاً مما يسمعه الناس في حال نومهم ليوقظهم أو نحو هذا، لا؛ ليس هذا المقصود، وإنما المقصود أنه ليس النوم الخفيف في أوائله، وبداياته التي يدرك الإنسان فيها أو يشعر بنفسه، هذا المقصود، إنما النوم الثقيل الذي يقصده ما يرتفع معه الإدراك، وكما يقال في مسألة النوم الناقض للوضوء من عدمه، انتهى.
- فتح القدير للشوكاني (4/ 93).
- فتح القدير للشوكاني (4/ 93).
- المصدر السابق.