الخميس 22 / ذو الحجة / 1446 - 19 / يونيو 2025
قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِى يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقال تعالى في جواب ما عاندوا هاهنا وافتروا: قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ... الآية، أي: أنزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين، والآخرين؛ إخباراً حقاً صدقاً، مطابقاً للواقع في الخارج، ماضياً ومستقبلاً أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ أي: الله الذي يعلم غيب السماوات، والأرض، ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر.

وقوله تعالى: إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا دعاء لهم إلى التوبة، والإنابة، وإخبار بأن رحمته واسعة، وأن حلمه عظيم، مع أن من تاب إليه تاب عليه، فهؤلاء مع كذبهم، وافترائهم، وفجورهم، وبهتانهم، وكفرهم، وعنادهم، وقولهم عن الرسول، والقرآن ما قالوا؛ يدعوهم إلى التوبة، والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام، والهدى كما قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة المائدة:73-74]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [سورة البروج:10] قال الحسن البصري: "انظروا إلى هذا الكرم، والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة، والرحمة"".

فقوله - تبارك وتعالى -: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ الإفك هو الكذب المختلق الذي لا شبهة فيه، ولا مرية، ومأخوذ من القلب قال الله - تعالى -: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [سورة النجم:53] وهي قرى قوم لوط - عليه الصلاة والسلام -.

إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ اختلقه، وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ يشيرون إلى من نسبوا ذلك إليهم من الموالي كما جاء في بعض الروايات، أو بعض الآثار كعباس، ويسار، وجويبر؛ هؤلاء كانوا من أهل الكتاب، وهم أيضاً من اليهود، وربما كانوا من الأعاجم فَقَدْ جَاءُُوا ظُلْمًا وَزُورًا فالظلم حيث تجنوا هذه الجناية، وكذبوا بالقرآن، والوحي، والنبوة، والزور هو الكذب، فإن مقالتهم هذه كاذبة، وحكمهم هذا زور، وجمعوا بين الظلم، والزور بحكم باطل، وقول مختلق.

وقوله: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا قال: يعنون كتب الأوائل، أساطير بعضهم يقول: جمع أسطورة كأحاديث، وأحدوثة، وبعضهم يقول: جمع أسطارة، أو جمع أسطار كأقوال، وأقاويل، والمقصود بالأساطير يعني: أحاديث الماضين، وحكايات الأولين، وما سطروه في كتبهم فيقولون: إنه اكتتبها أي: استنسخها فهي تملى عليه بكرة، وأصيلاً، مع أنهم عجزوا عن الإتيان بمثله، أو بسورة من مثله.

والله - تبارك وتعالى - يقول: لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ [سورة النحل:103] يعني: الذي أضافوا إليه القرآن، أو قالوا: إنه تلقاه منه أعجمي، فكيف يأتي بمثل هذا القرآن العظيم؟! وإذا كان هذا من أساطير الأولين اكتتبها فمن أين نقلها؟ ومن الذي سطرها حتى جاءت بهذه المثابة من الإعجاز، وما تضمنته من العقائد، والأحكام، والإخبار عن الأمور الغيبية الماضية، والمستقبلة؟ من الذي سطر هذه الأساطير؟ وهل يوجد في الأساطير مثل هذا؟ ولماذا لا يجتمعون جميعاً بكل ما أوتوا من قوة، ويأتون بأساطير كهذه؟ ولا زال التحدي قائماً إلى قيام الساعة، ولم يستطع أحد، ولن يستطيع؛ أن يأتي بمثله، ولا بقريب منه، والمحاولات التي بُذلت في هذا كانت في غاية الفشل، واقرؤوا ما ذكر في مختلقات مسيلمة الكذاب، وأيضاً حاول آخرون بعده كابن المقفع وغيره، ومن كان له عقل من هؤلاء لم يُخرج شيئاً، كان إذا كتب شيئاً مزقه، ثم أعلن بعد ذلك عجزه، وإفلاسه، حتى إن الفيلسوف الكندي المعروف طلب منه أصحابه أن يكتب لهم مثل القرآن، والفلاسفة يعدون أنفسهم فوق الأنبياء؛ فقال: أفعل، فاحتبس أياماً كثيرة، ثم خرج إليهم وقال: فتحت المصحف فظهرت لي سورة المائدة، فنظرت في أول آية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [سورة المائدة:1] يقول: فأمر أمراً مجملاً، ثم أحل، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، واحترز ثم ... الشاهد يقول: هذا لا يمكن لأحد أن يأتي بمثله، لا أستطيع، هذا الفيلسوف الكندي، والأمثلة على هذا متنوعة، يجمع ذلك جميعاً عجز البشر العرب، والأعاجم؛ من باب أولى عن الإتيان بمثل هذا القرآن.

ومن زعم أنه يستطيع أو شك فيما ذكره الله - تبارك وتعالى - من التحدي فليجرب، فيكفي هذا في الإعجاز، وإثبات الوحي، والنبوة، ومن ثَمّ الاستسلام الكامل لما جاء عن الله، وعن رسوله ﷺ، فإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، ولَمَا جاء من يرد النصوص متأولاً بعقله، أو محتجاً بجهله، وهذه بلوى قديمة، وقد ظهرت قرونها في هذه الأيام - والله المستعان -.

وقوله - تبارك وتعالى -: قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لماذا خص السر والله - تبارك وتعالى - يعلم السر والعلانية؟، يمكن أن يقال - والله تعالى أعلم -: إنه خص السر بما تضمنه القرآن من الأسرار البعيدة، والأمور الغيبية، ما تضمنه من الأسرار العجيبة، والأمور الغيبية، والمعاني الدقيقة.

وقوله - تبارك وتعالى -: إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا هذه لفتة مفيدة نبه عليها الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وذكر نظائرها، فهي دليل على سعة الرجاء يعني: هذه من نصوص الرجاء، والعلماء يتكلمون في أرجى آية في كتاب الله - تبارك وتعالى -، والآية التي تُرجَّي برحمة الله، وعفوه، ومغفرته للمسيء، فمثل هذه الآية الله - تبارك وتعالى - يقول، ويخاطب هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن، وقالوا ما قالوا من الزور، والبهتان، ومع ذلك تُختم الآية بذلك، فهي دعوة ضمنية لهم إلى التوبة، وأن العبد مهما عظم جرمه فإن توبة الله - تبارك وتعالى - تسع الجميع إذا تاب العبد إليه، وأناب، وهكذا ما ذكره الحافظ ابن كثير هنا حينما نسب النصارى إلى الله - تبارك وتعالى - الصاحبة قال: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المائدة:74] بهذا الأسلوب بالعرض اللطيف الرقيق يدعوهم إلى التوبة، وأصحاب الأخدود الذين حرقوا المؤمنين: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا يعني: أحرقوا، فالفَتْن هو الإحراق بالنار إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [سورة البروج:10] فهؤلاء الذين أحرقوهم بالنار يقول الله - تبارك وتعالى -: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فتوبة الله تسع هؤلاء كما تسع غيرهم، إذا عرف العبد هذا فإنه لا يقنط، ولا ييأس، وليس معنى هذا أنه يتكئ على سعة العفو من غير توبة، لا، وإنما يتوب.