الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
قُلْ مَا يَعْبَؤُا۟ بِكُمْ رَبِّى لَوْلَا دُعَآؤُكُمْ ۖ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًۢا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي أي: لا يبالي، ولا يكترث بكم؛ إذا لم تعبدوه؛ فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه، ويوحدوه، ويسبحوه بكرة، وأصيلاً.

وقوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أي: أيها الكافرون".

قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي يعبأ أصل هذه المادة تدل على الثقل، عبء، تقول: فلان يحمل عبأً يعني ثقلاً، أعباء بمعنى أثقال، فهذا أصلها، إذا قال: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي يعني: لا وزن لكم فالله لا يعبأ بكم بمعنى: لا يكترث بكم، فوجودكم وعدمه سواء، لا تمثلون شيئاً له وزن يذكر، ليس لكم قيمة تعتبر، هذا هو المعنى - والله تعالى أعلم -.

قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي و"ما" هذه تحتمل أن تكون استفهامية، وتحتمل أن تكون نافية، قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ يمكن أن يكون على سبيل الاستفهام: ماذا تزنون عنده لولا دعاؤكم؟ ما وزنكم، وما قيمتكم؟، ويحتمل أن تكون نافية، يخبر الله أنه لا وزن لهم، ولا قيمة، ولا اعتبار لولا دعاؤهم قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي والآية تحتمل هذا وهذا، بعض أهل العلم رجح الأول قال: إنها استفهامية كالفراء، وبعضهم رجح الثاني، وبعضهم يتوقف يقول: الآية تحتمل المعنيين، والشنقيطي - رحمه الله - يقول: كلاهما له وجه من النظر قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ.

وهنا لم يتكلم على قوله: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ أولاً الدعاء يأتي بمعنى السؤال، ويأتي بمعنى العبادة، والله - تبارك وتعالى - يقول: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [سورة غافر:60] فُسر بمعنى اعبدوني أُثِبْكم، وفسر بمعنى اسألوني أعطكم وأجبكم، والأقرب - والله أعلم - حمل ذلك على المعنيين؛ للملازمة بينهما؛ لأن الدعاء - دعاء المسألة - هو عبادة، فهذا الذي يدعو ربه: يا رب يا رب، هو في عبادة من أجلّ العبادات، والعابد يفعله، هذا سائل؛ لأنه إنما يقوم، ويصلي، ويركع، ويسجد، ويصوم ... إلى آخره، يطلب بهذا الفعل ما عند الله - تبارك وتعالى -، فهو سائل بفعله، فالدعاء يأتي بمعنى هذا وهذا: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ بمعنى: لولا عبادتكم، لكن لفظة دعاء هنا تحتمل أن تكون الإضافة فيها إلى الكاف: دُعَاؤُكُمْ من قبيل الإضافة إلى الفاعل، ويحتمل أن تكون من قبيل الإضافة إلى المفعول، والمعنى يتغير تماماً، والآية تحتمل هذا وهذا، فقوله: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ انظروا المعنى، لولا دعاؤكم إياه، يعني: عبادتكم إياه، لولا الدعاء الصادر منكم، لولا ما يصدر منكم من عبادة أو دعاء، فهذا من قبيل الإضافة إلى الفاعل: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ لولا ما يصدر منكم من عبادة، والمعنى الثاني: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ لولا دعاؤه إياكم، لولا دعاؤه لكم، يعني: إلى الإيمان، فيكون من قبيل الإضافة إلى المفعول، يعني: لولا أنه يدعوكم إلى طاعته، وتوحيده، وعبادته وحده لا شريك له، هذا المعنى، لا شأن لكم، ولا وزن، وإنما على المعنى الأول لا يعبأ بكم لولا ما يصدر منكم من طاعة، وتوحيد، وعبادة تقرب إليه ، وهذا المعنى هو الذي رجحه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - أنه من قبيل الإضافة إلى الفاعل.

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "قول الله - تعالى ذكره -: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ والصحيح من القولين: لولا أنكم تدعونه، وتعبدونه، أي: أي شيء يعبأه بكم لولا عبادتكم إياه، فيكون المصدر مضافاً إلى الفاعل"[1].

وقال - رحمه الله تعالى -: قول الله - تعالى ذكره -: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ وَأَصَح الْأَقْوَال فِي الْآيَة أَن مَعْنَاهَا مَا يصنع بكم رَبِّي لَوْلَا عبادتكم إِيَّاه، فَهُوَ سُبْحَانَهُ لم يخلقكم إِلَّا لعبادته، فَكيف يُقَال بعد هَذَا: إَن تَكْلِيفه إيَّاهُم عِبَادَته غير حسن فِي الْعقل؛ لِأَنَّهُ قَادر على الْإنْعَام عَلَيْهِم بالجزاء من غير توَسط الْعِبَادَة "[2].

"وقوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أيها الكافرون، فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا أي: فسوف يكون تكذيبكم لزامًا لكم يعني: مقتضياً لعذابكم، وهلاككم، ودماركم في الدنيا، والآخرة، ويدخل في ذلك يوم بدر كما فسره بذلك عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومحمد بن كعب القرظي، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم.

وقال الحسن البصري: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا يعني: يوم القيامة، ولا منافاة بينهما.

آخر تفسير سورة الفرقان، ولله الحمد والمنة".

بعضهم يقول: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا أي: يكون العذاب لزاماً، يعني: واقعاً لا محالة، منهم من قال: هذا في الدنيا كما وقع لهم يوم بدر، ومنهم من قال: ذلك يكون في الآخرة، وكما جاء عن ابن مسعود وجماعة من السلف - كما سبق - أنهم قالوا: إنه يوم بدر، فيكون: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا أي: فيصلاً، وأمراً واقعاً لا محالة بينكم وبينه، وبعضهم يقول: هذا التكذيب لزاماً، سوف يكون تكذيبكم ملازماً لكم مقتضياً لوقوع العذاب، والمعنى متقارب - والله تعالى أعلم -، لكن من أهل العلم من يقول: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا أي: أن تكذيبكم ملازم لكم لا ينفك عنكم فلا توفقون إلى التوبة، بمعنى: أن التكذيب هذا عاقبهم الله به كما جاء في مواضع أخرى أن الله لم يوفق أقواماً بسبب تكذيبهم الأول، وهناك كلام لبعض أهل العلم بأن من أعرض عما هو بصدده ابتلاه الله - تبارك وتعالى - بالاشتغال بما يضره: وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ [سورة البقرة:101] كانت النتيجة لما كذبوا، وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ [سورة البقرة:102] تركوا الرسول، وتركوا العمل بالتوراة، والنتيجة هي اتباع ما تتلوه الشياطين، وهكذا في الآيات التي يذكر الله بها أنه لم يوفق أقواماً بما كذبوا أي: بسبب تكذيبهم الأول، انصرفوا صرف الله قلوبهم، ولهذا يذكر بعد التكذيب - في بعض المواضع - الطبع: فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [سورة المنافقون:3] كما قال في المنافقين مثلاً، فهنا من أهل العلم من يقول: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا قد كذبتم فسوف يكون التكذيب ملازماً لكم فلا نوفقكم إلى توبة، يكون الكلام يتعلق بالتكذيب، فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا يكون الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، والعرب قد تحذف من الكلام اختصاراً ثقة بفهم السامع، فسوف يكون لزاماً أي: العذاب مثلاً واقعاً لا محالة، وأمراً لازماً؛ ولهذا قال ابن جرير - رحمه الله -: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا أي: إن عذابكم يكون واقعاً لا محالة ملازماً، لكن ابن جرير - رحمه الله - حمل ذلك على ما وقع يوم بدر: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا.

ولو حملت الآية على معنى أعم من هذا بمعنى: أن العذاب يكون لازماً، والكفار قد لا يقع عليهم عذاب في الدنيا لكان أولى، وهذه الآية وإن كان ظاهرها الخطاب لمعينين لكن ذلك يتوجه إلى جميع الكافرين - والله تعالى أعلم -، كل من وقع منه التكذيب فهو داخل في هذا.

  1. جلاء الأفهام، لابن القيم (ص: 156).
  2. مفتاح دار السعادة، لابن القيم (2/ 83).