الجمعة 01 / محرّم / 1447 - 27 / يونيو 2025
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِىٓ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِىٓ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحًا تَرْضَىٰهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ ٱلصَّٰلِحِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ أي: حتى إذا مر سليمان بمن معه من الجيوش، والجنود على وادي النمل قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ففهم ذلك سليمان منها.

فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ أي: ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها عليّ، من تعليمي منطق الطير، والحيوان، وعلى والدي بالإسلام لك، والإيمان بك، وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ أي: عملاً تحبه وترضاه، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ أي: إذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك، والرفيق الأعلى من أوليائك".

قوله - تبارك وتعالى - عن قول النملة للنمل: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ الحطم بمعنى الكسر، وفهم بعضهم: بعض المتكلفين ممن ليسوا من أهل العلم، وبعض من يتكلم على الإعجاز العلمي في القرآن قال: هذا فيه إعجاز في تركيب النمل، فالنملة فيها مادة الزجاج، فقال: لا يَحْطِمَنَّكُمْ والتحطيم يكون للزجاج، طيب وتحطيم الأصنام هل فيها مادة الزجاج؟!، والنار سميت الحطمة على أساس أنها يتحطم فيها الزجاج!، هذه عجمة في الفهم، فعد بعضهم هذا من الاكتشافات العلمية، وأن التعبير هنا جاء في خصوص النمل، إذاً كلمة يحطم أوسع من ذلك، ولا تقال لما يكون من الزجاج خاصة، ولا زال الناس يستعملونها إلى اليوم فيما كان من الزجاج وغيره - والله المستعان -، وهذا الكلام من هذه النملة فيه من اللطف في العبارة، والاعتذار لسليمان - عليه الصلاة والسلام -، والنصح لقومها، وقد نقل بعض المفسرين فيه أشياء كثيرة هي من قبيل التكلفات المنقولة عن بني إسرائيل، تكلم بعضهم في اسم النملة، ومن أي قبيلة، وتكلم في وادي النمل أين يقع؟ كل هذا مما لا يفيد، ولا حاجة إليه، ولا دليل يدل على ذلك، وللحافظ ابن القيم - رحمه الله - كلام جميل بهذا المعنى حيث قال - رحمه الله تعالى -: "ويكفي في هداية النمل ما حكاه الله - سبحانه - في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها، وخطابها لأصحابها بقولها: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته، ثم أتت بالاسم المبهم، ثم أتبعته بما يثبته من اسم الجنس إرادة للعموم، ثم أمرتهم بأن يدخلوا مساكنهم فيتحصنوا من العسكر، ثم أخبرت عن سبب هذا الدخول وهو خشية أن يصيبهم مضرة الجيش، فيحطمهم سليمان، وجنوده، ثم اعتذرت عن نبي الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك، وهذا من أعجب الهداية، وتأمل كيف عظم الله - سبحانه - شأن النمل بقوله: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ، ثم قال: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ فأخبر أنهم بأجمعهم مروا على ذلك الوادي، ودل على أن ذلك الوادي معروف بالنمل كوادي السباع ونحوه، ثم أخبر بما دل على شدة فطنة هذه النملة، ودقة معرفتها حيث أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم المختصة بهم، فقد عرفت هي والنمل أن لكل طائفة منها مسكناً لا يدخل عليهم فيه سواهم، ثم قالت: لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ فجمعت بين اسمه، وعينه، وعرّفته بهما، وعرّفت جنوده وقائدهم، ثم قالت: وهم لا يشعرون؛ فكأنها جمعت بين الاعتذار عن مضرة الجيش بكونهم لا يشعرون، وبين لوم أمة النمل حيث لم يأخذوا حذرهم، ويدخلوا مساكنهم، ولذلك تبسم نبي الله ضاحكا من قولها، وإنه لموضع تعجب، وتبسم، وقد روى الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عيينة عن ابن عباس - ا - أن رسول الله ﷺ: نهى عن قتل النمل، والنحلة، والهدهد، والصُّرد[1]"[2].

النملة بعضهم يقول: إنها تسبح كما جاء في حديث النبي الذي قتل قرية النمل، فكانت أمة تسبح، وعاتبه الله على ذلك، وبعضهم يقول: لا ضرر فيها، فإن أضرته قتل ما يضره منها، وبعضهم يقول: المنهي عن قتله هنا النمل السليماني وهو الأسود طويل القوائم، سريع الحركة، فإنه لا يؤذي؛ بخلاف النمل الصغير الذي يؤذي، فبعضهم - كالخطابي والبغوي - يقول: المقصود بالنمل "النمل السليماني" هو الذي نهي عن قتله لا سائر النمل، والنمل يمكن أن يُبعد عن طريق غير القتل، ويمكن أن يُتعوذ منه ثلاثاً فيذهب، وهذا مجرب، ومشاهد؛ تقول للنمل هذا ثم يختفي، بعض الصحابة كان يجلس بين التنورين، ويتوعدها؛ فتذهب، إذا شكا أهله النمل قال لها ذلك، والنهي عن قتل النحلة؛ لمنافعها، والصُّرد طائر أكبر من العصفور رأسه كبير، لونه أسود وأبيض، كثير الريش، نهي عن قتله، بعضهم يقول: لأنه لا يؤكل، وقتله عبث، فهو لا يضر، وما نهي عن قتله فإنه لا يحل أكله، وبعضهم يقول: لا يحل أكله؛ لأنه يفترس صغار الطير، وبعضهم يقول غير هذا، والعرب كانت تتشاءم به؛ نظراً لاسمه، والنبي ﷺ أراد أن يرفع ذلك، فنهى عن قتله؛ يعني كانوا يكرهونه فيقتلونه ليتخلصوا منه، فنهى عن قتله ليرفع عنهم هذا التشاؤم به، وهو لا يضر، قتله عبث، بخلاف الغراب، والحِدَأة، والكلب العقور؛ وأمثال هذا.

وقال - رحمه الله -: "وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة، فقرصته نملة، فأمر بجهازه فأخرج، وأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه أمن أجل أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح؟ فهلا نملة واحدة[3]، وذكر هشام بن حسان أن أهل الأحنف بن قيس لقوا من النمل شدة، فأمر الأحنف بكرسي فوضع عند تنورين، فجلس عليه، ثم تشهد، ثم قال: "لتنتهن أو ليحرقن عليكن، ونفعل"، قال: فذهبن، وروى عوف بن أبي جميلة عن قسامة بن زهير قال: قال أبو موسى الأشعري: "إن لكل شيء سادة، حتى للنمل سادة"، ومن عجيب هدايتها أنها تعرف ربها بأنه فوق سماواته على عرشه كما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد من حديث أبي هريرة يرفعه قال: "خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون، فإذا هم بنملة رافعة قوائمها إلى السماء، تدعو، مستلقية على ظهرها، فقال: ارجعوا فقد كفيتم أو سقيتم بغيركم" ولهذا الأثر عدة طرق، ورواه الطحاوي في التهذيب وغيره وقال: الإمام أحمد حدثنا قال: خرج سليمان بن داود يستسقي فرأى نملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: "اللهم إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك، ورزقك، فإما أن تسقينا وترزقنا، وإما أن تهلكنا"، فقال: "ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم"، ولقد حدثني أن نملة خرجت من بيتها فصادفت شق جرادة، فحاولت أن تحمله فلم تطق، فذهبت، وجاءت معها بأعوان يحملنه معها، قال: فرفعتُ ذلك من الأرض"[4].

يعني هذا الذي كان يراقبها رفع الجزء هذا من الجرادة، قطعة من الجرادة عجزت عن حملها، فذهبت تستدعي جماعة من النمل؛ ليحملنها معها، فأخفاه عنها، فجاءت فما وجدت الجرادة.

قال - رحمه الله -: "فطافت في مكانه فلم تجده، فانصرفوا، وتركوها، قال: فوضعتُه، فعادت تحاول حمله، فلم تقدر؛ فذهبت، وجاءت بهم، فرفعتُه فطافت، فلم تجده، فانصرفوا قال: فعلت ذلك مراراً، فلما كان في المرة الأخيرة استدار النمل حلقة، ووضعوها في وسطها، وقطعوها عضواً عضواً"[5].

يعني ظنوا أنها تكذب.

وقال - رحمه الله -: "قال شيخنا: وقد حكيت له هذه الحكاية فقال: هذه النمل فطرها الله - سبحانه - على قبح الكذب، وعقوبة الكذاب، والنمل من أحرص الحيوان، ويضرب بحرصه المثل، ويذكر أن سليمان - صلوات الله وسلامه عليه - لما رأى حرص النملة، وشدة ادخارها للغذاء؛ استحضر نملة، وسألها كم تأكل النملة من الطعام كل سنة؟ قالت: ثلاث حبات من الحنطة، فأمر بإلقائها في قارورة، وسد فم القارورة، وجعل معها ثلاث حبات حنطة، وتركها سنة بعدما قالت، ثم أمر بفتح القارورة عند فراغ السنة، فوجد حبة، ونصف حبة، فقال: أين زعمك؟ أنت زعمت أن قوتك كل سنة ثلاث حبات، فقالت: نعم، ولكن لما رأيتك مشغولاً بمصالح أبناء جنسك حسبت الذي بقي من عمري فوجدته أكثر من المدة المضروبة، فاقتصرت على نصف القوت، واستبقيت نصفه؛ استبقاء لنفسي، فعجب سليمان من شدة حرصها، وهذا من أعجب الهداية والعطية، ومن حرصها أنها تكد طوال الصيف، وتجمع للشتاء؛ علماً منها بإعواز الطلب في الشتاء، وتعذر الكسب فيه، وهي على ضعفها شديدة القوى، فإنها تحمل أضعاف أضعاف وزنها، وتجره إلى بيتها، ومن عجيب أمرها أنك إذا أخذت عضو كزبرة يابس فأدنيته إلى أنفك لم تشم له رائحة، فإذا وضعته على الأرض أقبلت النملة من مكان بعيد إليه، فإن عجزت عن حمله ذهبت، وأتت معها بصف من النمل يحتملونه، فكيف وجدت رائحة ذلك من جوف بيتها حتى أقبلت بسرعة إليه؟ فهي تدرك بالشم من البعد ما يدركه غيرها بالبصر أو بالسمع، فتأتي من مكان بعيد إلى موضعٍ أكلَ فيه الإنسان، وبقي فيه فتات من الخبز أو غيره فتحمله، وتذهب به، وإن كان أكبر منها، فإن عجزت عن حمله ذهبت إلى جحرها، وجاءت معها بطائفة من أصحابها، فجاءوا كخيط أسود يتبع بعضهم بعضاً، حتى يتساعدوا على حمله، ونقله، وهي تأتي إلى السنبلة فتشمها فإن وجدتها حنطة قطعتها، ومزقتها، وحملتها، وإن وجدتها شعيراً فلا، ولها صدق الشم، وبُعد الهمة، وشدة الحرص، والجرأة على محاولة نقل ما هو أضعاف أضعاف وزنها، وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل إلا أن لها رائداً يطلب الرزق، فإذا وقف عليه أخبر أصحابه فيخرجن مجتمعات، وكل نملة تجتهد في صلاح العامة منها غير مختلسة من الحب شيئاً لنفسها دون صواحباتها، ومن عجيب أمرها أن الرجل إذا أراد أن يحترز من النمل لا يسقط في عسل أو نحوه فإنه يحفر حفيرة، ويجعل حولها ماء أو يتخذ إناء كبيراً، ويملؤه ماء، ثم يضع فيه ذلك الشيء، فيأتي الذي يطيف به فلا يقدر عليه، فيتسلق في الحائط، ويمشي على السقف إلى أن يحاذي ذلك الشيء فتلقى نفسها عليه، وجربنا نحن ذلك"[6].

يعني إذا جاء ووضع مثلاً عسلاً أو نحو ذلك ما يريد أن يصل النمل إليه، وضعه مثلاً في طَسْتٍ فيه ماء، ووضع قارورة العسل بوسطهما مثلاً فما تستطيع تخوض الماء حتى تصل إليه، فتصعد الجدار، ثم السقف، فإذا حاذته ألقت بنفسها على العسل.

وقال - رحمه الله -: "وأحمى صانعٌ مرة طوقا بالنار، ورماه على الأرض؛ ليبرد، واتفق أن اشتمل الطوق على نمل فتوجه في الجهات ليخرج فلحقه وهج النار فلزم المركز، ووسط الطوق، وكان ذلك مركزاً له وهو أبعد مكان من المحيط"[7].

يعني الحديدة مدورة حامية عند الحداد ألقاها في الأرض لتبرد، فكان في الموقع الذي ألقاها فيه نمل، فاجتمع النمل في الوسط تماماً ليبتعد عن الطوق؛ لأن كل طرف حار بهذه الدائرة من الحديد، ما فيه مخرج، فجلس أبعد ما يكون عن الأطراف، في الوسط، ابتعد عن الحلقة فجلس في المركز، وهذا كلام الحافظ ابن القيم.

  1. رواه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (19160)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (5728)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد برقم (6087)، وقال: رواه الطبراني في الكبير وفيه عبد المهيمن بن عباس بن سهل وهو ضعيف.
  2. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم (69).
  3. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم، برقم (3141)، ومسلم، كتاب السلام، باب النهي عن قتل النمل، برقم (2241).
  4. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم (69).
  5. المصدر السابق (69-70).
  6. المصدر السابق (70).
  7. المصدر السابق (70).