الخميس 22 / ذو الحجة / 1446 - 19 / يونيو 2025
قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَىٰٓ ۗ ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المؤلف - رحمه الله تعالى -: قال الله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ۝ أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [سورة النمل:59-60].

يقول تعالى آمرًا رسوله ﷺ أن يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي: على نعمه على عباده، من النعم التي لا تعد، ولا تحصى، وعلى ما اتصف به من الصفات العُلى، والأسماء الحسنى، وأن يُسَلِّم على عباد الله الذين اصطفاهم، واختارهم وهم: رسله، وأنبياؤه الكرام - عليهم من الله الصلاة والسلام -، هكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيره: إن المراد بعباده الذين اصطفى: هم الأنبياء، قال: وهو كقوله تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الصافات:180-182].

وقال الثوري، والسدي: "هم أصحاب محمد ﷺ و أجمعين"، وروي نحوه عن ابن عباس، ولا منافاة، فإنهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى".

فقوله - تبارك وتعالى -: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى هذا الأمر بحمد الله - تبارك وتعالى - يحتمل أن يكون متوجهاً إلى لوط - عليه الصلاة والسلام -؛ أمره ربه أن يحمده على هلاك قومه الذين كذبوه، وقارفوا هذه الفواحش، ولم يقبلوا نصحه، وتذكيره، ويحتمل أن يكون ذلك الخطاب موجهاً للنبي ﷺ أن يَحمد اللهَ على هلاك المكذبين عموماً، والذين قالوا: إنه متوجه إلى لوط - عليه الصلاة والسلام -؛ لأن ذلك جاء عقب خبره - عليه الصلاة والسلام -، وما جرى له مع قومه قال: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ۝ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [سورة النمل:58-59]، ولكن ظاهر السياق - والله تعالى أعلم - أن ذلك متوجه إلى النبي ﷺ تعليم له من الله - تبارك وتعالى - (وهو خطاب أيضاً للأمة) أن يحمد الله - تبارك وتعالى - على نعمه، وآلائه، ومن جملتها إهلاك المكذبين، وذلك أن ما ذكره الله - تبارك وتعالى - عن خبر لوط - عليه الصلاة والسلام - ذكره بصيغة الإخبار عما وقع له مع قومه بطريق الإخبار عن الغائب وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ [سورة النمل:54] فما كان جواب قومه إلا أن قالوا: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [سورة النمل:56]، وفَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الغَابِرِينَ ۝ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ۝ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ هذا الخطاب إلى لوط - عليه الصلاة والسلام - قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ - والله يحكي خبره -: الظاهر أنه خطاب للنبي ﷺ، والذين قالوا: إنه متوجه إلى النبي ﷺ قالوا: هذا الأصل في القرآن أن مثل هذا الخطاب يتوجه إليه - عليه الصلاة والسلام -؛ لأن القرآن نزل عليه، ويكون ذلك شاملاً للأمة؛ لأن الحمد لا يختص به - عليه الصلاة والسلام - كما قال الله - تبارك وتعالى - فيما هو أبين وأوضح من هذا وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا [سورة الإسراء:23] مع أن أبويه - عليه الصلاة والسلام - قد مات منذ زمن بعيد عن نزول تلك الآيات، ثم إن قوله - تبارك وتعالى -: وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى العباد الذين اصطفاهم يحتمل أن يكون المراد بذلك الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، والرسل، وقد ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هذا القول، وعزاه لابن زيد وغيره، وذكر الأدلة على هذا وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [سورة الصافات:181]، فالله - تبارك وتعالى - قال: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [سورة الحج:75]، وقال لموسى - عليه الصلاة والسلام -: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي [سورة الأعراف:144] فهؤلاء الرسل - عليهم الصلاة والسلام - هم الذين اصطفاهم الله، واجتباهم، والقول الآخر: أن المراد بذلك الصحابة ، ومن أهل العلم من ذكر ما هو أعم من ذلك وهم أهل الإيمان، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - جمع بين هذه الأقوال كعادته إذ لا منافاة بينها، فإن الله - تبارك وتعالى - قال: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [سورة القصص:68] فهو كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: اختيار بعد الخلق، فاختار الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - على سائر الناس، واختار من الأنبياء الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، واختار من الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - أولي العزم، واختار منهم محمداً ﷺ فهو أفضلهم، وهكذا أيضاً فإن الله اختار أهل الإيمان على سائر الناس وجعلهم أمة الإجابة، واختار منهم السابقين بالخيرات وهذا أمر لا يخفى أن هذا الاختيار واقع في هذه الأمة، وفي غيرها من الأمم، فقوله: وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى يدخل فيه دخولاً أولياً الأنبياء، والرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وإذا نظرت إلى غيرهم ممن اصطفاهم الله في الجملة من أهل الإيمان فإن ذلك يصدق عليهم، والسلام غير ممتنع على غير الأنبياء؛ لأنه تسليم من الله - تبارك وتعالى - بإلقاء هذا الاسم (السلام) وهو أمنةٌ، ودعاءٌ بالسلامة في وقت واحد، بمعنى أنه إخبار، وكذلك هو دعاء للمسلم بالسلامة، وبعضهم يخصص ذلك بأمة محمد ﷺ أن الله اصطفاها على سائر الأمم كما قال الله - تبارك وتعالى -: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] بطوائفهم الثلاث، ولكن لا دليل على التخصيص فيه بهذه الأمة، وإن كانوا من جملة من اصطفاهم الله - تبارك وتعالى -، وكأن هذا القائل نظر إلى ما ذكر الله من خبر تلك الأمم المكذبة كقوم لوط  - عليه الصلاة والسلام - ثم جاء هذا الأمر للنبي ﷺ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى هذه الأمة التي اجتباها الله، وأورثها الكتاب، والنبوة - والله أعلم -.

"وقوله: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ: استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى".

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "قوله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى هل السلام من الله - تعالى - فيكون المأمور به الحمد، والوقف التام عليه، أو هو داخل في القول والأمر بهما جميعا؟"[1].

يعني: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ المأمور به أن يحمد الله انتهى، وقف، ثم الله يقول: وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى يكون ذلك من كلام الله، وهذا من الموصول لفظاً، المفصول معنى، ويحتمل أن يكون ذلك من جملة القول المأمور به قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى.

وقال - رحمه الله -: "فالجواب عنه أن الكلام يحتمل الأمرين، ويشهد لكل منهما ضرب من الترجيح، فيُرجَّح كونه داخلاً في جملة القول بأمور: منها اتصاله به، وعطفه عليه من غير فاصل"[2].

يعني وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى هذا من جملة المأمور به كقولك: قل كذا وكذا، وهذا يوجد ما يشهد له:

أولاً: أنه معطوف على الحمد، فيكون من جملة ما أمر به.

وقال - رحمه الله -: "وهذا يقتضي أن يكون فعل القول واقعاً على كل واحد منهما هذا هو الأصل، ما لم يمنع منه مانع"[3].

يعني أن العامل فيهما واحد، فالأصل في الكلام الاتصال لفظاً ومعنى ما لم يقم دليل أو قرينة على التفريق بينهما.

وقال - رحمه الله -: " ولهذا إذا قلت: الحمد لله، وسبحان الله؛ فإن التسبيح هنا داخل في المقول.

 ومنها: أنه إذا كان معطوفاً على المقول كان عطف خبر على خبر، وهو الأصل، ولو كان منقطعاً عنه كان عطفاً على جملة الطلب، وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب"[4].

إذا قلت: قل كذا وكذا، فهو عطف جملة على جملة هي نظيرة لها، لكن إذا قال: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ يكون هذا المأمور به طلباً وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى إذا كان هذا من كلام الله يكون هذا خبراً، عطف الخبر على الطلب، هذا وإن كان صحيحاً في اللغة إلا أنه قليل، وبعضهم أنكره، وقال: لا يصح في اللغة، لكن هو صحيح وإن كان قليلاً في الاستعمال، المقصود: انظر طرق الترجيح والقرائن التي يذكرها.

وقال - رحمه الله -: "ومنها: أن قوله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ظاهر في أن المُسلِّم هو القائل الحمد لله؛ ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغيبة ولم يقل: سلام على عبادي"[5].

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ لو كان من الله قال: وسلام على عبادي الذين اصطفيت.

وقال - رحمه الله -: "ويشهد لكون السلام من الله - تعالى - أمور: أحدها: مطابقته لنظائره في القرآن من سلامه - تعالى - بنفسه على عباده الذين اصطفى"[6].

هذه مرجحات القول الآخر أنه مفصول، وأن الثاني من كلام الله، يقول يشهد له القرآن.

وقال - رحمه الله -: "كقوله: سلام على نوح في العالمين، سلام على إبراهيم سلام على موسى وهارون، سلام على إل ياسين.

 ومنها: أن عباده الذين اصطفى هم المرسلون، والله - سبحانه - يقرن بين تسبيحه لنفسه، وسلامه عليهم، وبين حمده لنفسه، وسلامه عليهم، أما الأول: فقال تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [سورة الصافات:180-181] وقد ذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق بجلاله، ثم سلامه على رسله.

 وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل، ومبتدع؛ فإنه نزه نفسه تنزيهاً مطلقاً كما نزه نفسه عما يقول ضُلّال خلقه فيه، ثم سلم على المرسلين، وهذا يقتضي سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم، المخالفون لهم، وإذا سَلِموا من كل ما رماهم به أعداؤهم؛ لزم سلامة كل ما جاءوا به من الكذب، والفساد، وأعظم ما جاءوا به التوحيد، ومعرفة الله، ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم.

وإذا سلِم ذلك من الكذب، والمحال، والفساد؛ فهو الحق المحض، وما خالفه هو الباطل، والكذب المحال، وهذا المعنى بعينه في قوله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى فإنه يتضمن حمده بما له من نعوت الكمال، وأوصاف الجلال، والأفعال الحميدة، والأسماء الحسنى، وسلامة رسله من كل عيب، ونقص، وكذب، وذلك يتضمن سلامة ما جاءوا به من كل باطل، فتأمل هذا السر في اقتران السلام على رسله بحمده، وتسبيحه، فهذا يشهد لكون السلام هنا من الله - تعالى - كما هو في آخر الصافات.

وأما عطف الخبر على الطلب فما أكثره فمنه قوله تعالى: قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ [سورة الأنبياء:112]، وقوله: وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [سورة المؤمنون:118]، وقوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [سورة الأعراف:89]، ونظائره كثيرة جداً.

وفصل الخطاب في ذلك أن يقال: الآية تتضمن الأمرين جميعاً، وتنتظمهما انتظاماً واحداً"[7].

ذكَرَ القرائن التي تشهد للقول الأول أنه من جملة المأمور به قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، ثم ذكر القول الآخر قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثم الوقف يكون هنا تاماً، ثم يكون ذلك من كلام الله يقول مُسلّماً: وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ذكر أدلة هذا، وأدلة هذا، والقرائن التي تشهد لكل منهما، ثم جمع بين القولين، والآية إذا احتملت معنيين أو أكثر كل واحد يشهد له القرآن، ولا يوجد ما يمنع من حملها على هذه المعاني؛ فإنها تحمل عليها؛ لأن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

قال ابن القيم - رحمه الله -: "فإن الرسول هو المبلغ عن الله كلامه، وليس فيه إلا البلاغ، والكلام كلام الرب - تبارك وتعالى - فهو الذي حمد نفسه وسلم على صفوة عباده، وأمر رسوله بتبليغ ذلك، فإذا قال الرسول: الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى؛ كان قد حمد الله، وسلم على عباده بما حمد به نفسه، وسلم به هو على عباده، فهو سلام من الله ابتداء، ومن المبلغ بلاغاً، ومن العباد اقتداء، وطاعة، فنحن نقول كما أمرنا ربنا - تبارك وتعالى -: الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى"[8].

هذا الوجه في الجمع بهذه الطريقة: من جهة المعنى أنه مأمور به، وحينما أمر الله به فهو بهذا الاعتبار مُسلِّم على عباده الذين اصطفى؛ لأنه أمر نبيه ﷺ بذلك، لكن من الناحية اللفظية هذا كلام الله يسلم حينما يقول: وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وكلام النبي ﷺ المأمور به: هذا لا يمكن أن تقوله في آنٍ واحد في هذا الموضع، هذا الكلام لمتكلميْن، إما أن يكون الوقف هنا قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ إذا قلت بأن الوقف تام وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى فيكون من المفصول معنى، هناك يأمره قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثم الوقف، ثم الله يقول: وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ففي هذا الموضع التسليم ليس من جملة المأمور به، وإما أن يكون غير ذلك، فهنا من الناحية اللفظية لا يمكن الجمع - والله أعلم -، هذا كله صحيح في هذا الموضع من الناحية اللفظية أن هذا من كلام الله المأمور به أعني قوله تعالى: وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى لأنه هو الذي يسلم، وأنه في نفس الوقت مما أمر به نبيه ﷺ، لكن من ناحية المعنى حينما أمر نبيه ﷺ بهذا فهو تسليم منه على نبيه - عليه الصلاة والسلام -، - والله تعالى أعلم -، هذا من جهة المعنى، فهذه طريقة في الجمع بين الأقوال، وطرق الجمع متعددة، ومن تتبع المواضع التي في هذا يستطيع أن يحصّل من ذلك صوراً كثيرة - والله أعلم -.

وقال - رحمه الله -: "وكلمة السلام هنا تحتمل أن تكون داخلة في حيز القول، فتكون معطوفة على الجملة الخبرية وهي: الحمد لله، ويكون الأمر بالقول متناولاً للجملتين معاً"[9].

قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: ثم شرع - تعالى - يبين أنه المنفرد بالخلق، والرزق، والتدبير دون غيره فقال: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أي: تلك السموات بارتفاعها، وصفائها، وما جعل فيها من الكواكب النيرة، والنجوم الزاهرة، والأفلاك الدائرة، والأرض باستفالها، وكثافتها، وما جعل فيها من الجبال، والأوعار، والسهول، والفيافي، والقفار، والأشجار، والزروع، والثمار، والبحور، والحيوان على اختلاف الأصناف، والأشكال، والألوان وغير ذلك.

وقوله: وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً أي: جعله رزقاً للعباد، فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ أي: بساتين ذَاتَ بَهْجَةٍ أي: منظر حسن، وشكل بهي".

قوله - تبارك وتعالى -: فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ الحدائق قال: البساتين، والحديقة تطلق في كلام العرب على البستان الذي له حائط، فإن لم يكن عليه حائط فهو بستان، فما له حائط يقال له: حديقة، والذي ليس له حائط يقال له: بستان، يقول: "منظر حسن، وشكل بهي" يعني يبتهج من ينظر إليه.

"مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أي: لم تكونوا تقدرون على إنبات شجرها، وإنما يقدر على ذلك الخالق، الرازق، المستقل بذلك، المتفرد به، دون ما سواه من الأصنام، والأنداد، كما يعترف به هؤلاء المشركون كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة الزخرف:87]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة العنكبوت:63] أي: هم معترفون بأنه الفاعل لجميع ذلك وحده لا شريك له، ثم هم يعبدون معه غيره مما يعترفون أنه لا يخلق، ولا يرزق، وإنما يستحق أن يُفرَدَ بالعبادة مَن هو المتفرد بالخلق، والرزق؛ ولهذا قال: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ أي: أإله مع الله يُعبد، وقد تبين لكم، ولكل ذي لب مما يعترفون به أيضًا أنه الخالق، الرازق؟!

ثم قال: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أي: يجعلون لله عدلاً ونظيراً".

قوله - تبارك وتعالى - هنا: مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا يعني: ما صح لكم، ومعنى النفي هنا الحظر، يعني هذا لا يتأتى لكم، ولا يمكن، والله - تبارك وتعالى - يقول: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ [سورة التوبة:120] يعني: ما صح لهم، وهذا بمعنى الحظر أي لا يجوز لهم ذلك، لكن هذا يدل على الامتناع فإن ذلك لا يتأتى للمخلوقين، فالامتناع ليس المقصود به الامتناع الشرعي مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا، وإنما الامتناع العادي يعني أن ذلك لا يمكن أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا تستطيع أن تقول: هو ممتنع واقعاً، ولا يمكن أن يحصل ذلك من المخلوق؛ لأن ذلك إنما يختص به الخالق وهو الخلق، الامتناع: منه ما هو امتناع شرعي، ومنه ما يكون من قبيل الامتناع العادي في مجال العادات، ومنه ما يكون من قبيل الامتناع العقلي يعني المحال عقلاً الذي لا يتصوره العقل أصلاً، وقوله - تبارك وتعالى -: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ابن كثير - رحمه الله - هنا يقول: أي: أإله مع الله يعبد؟، ومن أهل العلم من يقول: أإله مع الله أوجدها، وخلقها؟! فهما قولان مشهوران، وهكذا في قوله: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أي: يجعلون لله عدلاً، ونظيراً، أيضاً يحتمل معنى آخر بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أي: عن الحق، يعدلون عنه، ويختارون طريق الباطل، فهم يعدلون عن الحق إلى الباطل، هذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، والآية تحتمل هذا وهذا، فإذا كانوا يجعلون لله - تبارك وتعالى - نظيراً على المعنى الأول، فهم في الواقع قد عدلوا عن الحق إلى الباطل، فهذان المعنيان صحيحان، ولا منافاة بينهما - والله تعالى أعلم -، فهذا والذي قبله، وكذلك في قوله - تبارك وتعالى -: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ أإله مع الله يعبد؟، أإله مع الله خلقها، وأوجدها: كل ذلك صحيح، فهذا وإن كان من قبيل اختلاف التضاد إلا أنه يرجع إلى اختلاف التنوع باعتبار الجمع بين هذه الأقوال.

قال ابن القيم - رحمه الله -: "يحتج عليهم بأن من فعل لهم هذا وحده فهو الإله لهم وحده، فإن كان معه رب فعل هذا فينبغي أن تعبدوه، وإن لم يكن معه رب فعل هذا فكيف تجعلون معه إلهاً آخر؟

 ولهذا كان الصحيح من القولين في تقدير الآية: أإله مع الله فعل هذا؟، حتى يتم الدليل؛ فلا بد من الجواب بلا، فإذا لم يكن معه إله فعل كفعله فكيف تعبدون آلهة أخرى سواه؟ فعلم أن إلهية ما سواه باطلة، كما أن ربوبية ما سواه باطلة بإقراركم، وشهادتكم.

ومن قال: المعنى هل مع الله إله آخر؟ من غير أن يكون المعنى فعَلَ هذا فقوله ضعيف لوجهين:

أحدهما: أنهم كانوا يقولون: مع الله آلهة أخرى، ولا ينكرون ذلك.

الثاني: أنه لا يتم الدليل، ولا يحصل إفحامهم، وإقامة الحجة عليهم؛ إلا بهذا التقدير، أي: فإذا كنتم تقولون: إنه ليس معه إله آخر فعل مثل فعله؛ فكيف تجعلون معه إلهاً آخر لا يخلق شيئاً وهو عاجز؟ وهذا كقوله: أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [سورة الرعد:16]، وقوله: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ [سورة لقمان:11]، وقوله: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ [سورة النحل:17]، وقوله: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [سورة النحل:20]، وقوله: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [سورة الفرقان:3]، وهو كثير في القرآن، وبه تتم الحجة كما تبين"[10].

الحافظ ابن القيم كما ترون يخالف ابن كثير فيما ذهب إليه، فابن كثير يقول: أإله مع الله يعبد؟!، لكنه لم يرجح هذا القول، والكلام الذي حذف في المختصر كان ينبغي ألا يحذف، فابن كثير ذكر القول الآخر أإله مع الله فعل هذا؟! قال: وهو يرجع إلى القول الأول بطريق الجمع بين القولين، والذي ذكره ابن القيم - رحمه الله - يخالف القول الذي اختاره ابن كثير - رحمه الله - أإله مع الله يعبد؟!، فابن القيم يقول: أإله مع الله خلق هذا؟! فعل هذا؟! واحتج على هذا بأمرين:

الأمر الأول: أنهم يعبدون معه غيره، فهم لا ينكرون عبادة غير الله ، يعبدون معه الأصنام.

والأمر الثاني: أن الحجة لا تقوم عليهم بمثل هذا، إنما تقوم بأن يقولوا: لا، أإله مع الله فعل هذا؟! أإله مع الله خلق؟! فهم ينكرون أنه ما خلق ذلك أحدٌ سوى الله - تبارك وتعالى -، هم يقرون بهذا، إذا كان كذلك ألزمهم بتوحيد الإلهية، وهذا معنى قول أهل العلم: إن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، ويقتضيه، ويُحتج عليهم بتوحيد الربوبية الذي يقرون به على توحيد الإلهية، فهذا معنى كلام ابن القيم، واحتج على هذين الأمرين، يقول: وكيف يقول لهم: أإله مع الله يعبد وهم يعبدون غيره؟ لكن يمكن أن يقال: الذي قال: يعبد لا يخفى عليه ما ذكره ابن القيم، وإنما يقصدون أإله مع الله يعبد أي يستحق العبادة، وهو الذي خلق هذه المخلوقات، وأوجدها - تبارك وتعالى - مما يعجز عنه الخلق؟، فيكون القول الأول والثاني بهذا الاعتبار بينهما ملازمة على هذا الوجه، أإله مع الله أوجدها فيستحق العبادة؟، أو أإله مع الله يستحق العبادة، والله هو الذي خلقها، وأوجدها؟، والآية تحتمل المعنيين، والواقع أنه ليس مع الله إله يستحق أن يعبد، وليس مع الله إله خلقها، وأوجدها - والله تعالى أعلم -.

  1. بدائع الفوائد، لابن القيم الجوزيه (2 /397)، تحقيق : هشام عبد العزيز عطا - عادل عبد الحميد العدوي - أشرف أحمد، مكتبة نزار مصطفى الباز - مكة المكرمة، ط1، سنة النشر: 1416هـ -1996م.
  2. بدائع الفوائد، لابن القيم (2/397).
  3. المصدر السابق (2 /397).
  4. المصدر السابق (2 /397).
  5. المصدر السابق (2 /397).
  6. المصدر السابق (2  /397).
  7. بدائع الفوائد، لابن القيم (2 /397-398).
  8. بدائع الفوائد، لابن القيم الجوزيه (2 /398).
  9. طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم (514)، تحقيق: عمر بن محمود أبو عمر.
  10. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (1 /412).