"وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سورة النمل:71-75]
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين في سؤالهم عن يوم القيامة، واستبعادهم وقوع ذلك: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قال الله مجيبًا لهم: قُلْ يا محمد عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ، قال ابن عباس: "أن يكون قرب - أو: أن يقرب - لكم بعض الذي تستعجلون، وهكذا قال مجاهد، والضحاك، وعطاء الخرساني، وقتادة، والسدي.
وهذا هو المراد بقوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [سورة الإسراء:51]، وقال تعالى: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [سورة العنكبوت:54].
وإنما دخلت "اللام" في قوله: رَدِفَ لَكُمْ؛ لأنه ضُمن معنى "عَجِل لكم" كما قال مجاهد في رواية عنه: عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ: عجل لكم.
ثم أخبر تعالى بأنه عالم غيب السموات، والأرض، وأنه عالم الغيب والشهادة - وهو ما غاب عن العباد وما شاهدوه - فقال: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ قال ابن عباس: يعني: وما من شيء فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وهذا كقوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [سورة الحج:70]".
قوله - تبارك وتعالى -: قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ، فـعَسَى من الله واجبة بمعنى أنها تأتي بمعنى الترجي، ولكن ذلك يكون ممن لا يعلم عواقب الأمور، فإذا صدر ذلك عن الله فهو يعلم ما كان وما يكون، ولهذا قال من قال من السلف : إنّ "عسى" من الله واجبة، يعني متحققة ليست للترجي، ومعلوم أن الخطاب قد يصدر مراعاة لحال المخاطب، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طه:44] يعني بحسب رجائكما كما يقول بعض المفسرين، وهذا وجه، عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم [سورة الممتحنة:7] يقال فيها كما هنا: إن ذلك متحقق الوقوع، وقد كان، فأسلم من أسلم منهم.
وقوله - تبارك وتعالى - هنا: عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: قال ابن عباس: أن يكون قرب، بمعنى قرب؛ ولهذا في قراءة غير متواترة لابن عباس - ا - عسى أن يكون أزف لكم، وأزف بمعنى قرب، والقراءة الأحادية تفسر المتواترة يقول: وهكذا قال مجاهد، والضحاك، وعطاء إلى آخره، قال: وهذا هو المراد بقوله - تعالى -: وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا، يقول: وإنما دخلت "اللام" في قوله: رَدِفَ لَكُمْ؛ لأنه ضُمن معنى "عَجِل لكم"، وعلى هذا الاعتبار (القول بالتضمين) لا تكون اللام زائدة، تقول: ردفه وأردفه إذا ركب خلفه، والله - تبارك وتعالى - يقول: أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ [سورة الأنفال:9] يعني يردف بعضهم بعضاً أي أنهم يُتبعون على قول جماعة من المفسرين بما ذكر في الوعد الآخر الثلاثة الآلاف، والخمسة بشرطه، فالشاهد هنا ردف تقول: ردفه وأردفه إذا ركب خلفه، رَدِفَ لَكُمْ قالوا هنا بمعنى تبِعكم ولحِقكم، بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ، واللام زائدة للتوكيد، المعنى رَدِفَ لَكُمْ أي لحقكم، وتبعكم؛ يعني ردفكم بعض الذي تستعجلون، والذين قالوا بالتضمين والمراد به: أن يضمن الفعل معنى فعل آخر يعدى بتعديته، فيكون ذلك أبلغ في المعنى، بمعنى أنهم ينظرون إلى الفعل الموجود؛ فيقولون: إنه عدي بالحرف الفلاني وهذا الفعل إنما يتعدى بنفسه لا يحتاج إلى حرف، فبعضهم يقول: هذا الحرف زائد، وأحياناً قد يعدى بحرف آخر ليس بهذا الحرف، فيقولون: هذا الحرف بمعنى الحرف الآخر، وهذه طريقة الكوفيين، وتضمين الفعل معنى الفعل طريقة البصريين فيبحثون عن فعل يصلح أن يعدى بهذا الحرف، فيقولون: إن هذا الفعل مضمن فعلاً آخر يصح أن يعدى مثل: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [سورة الإنسان:6] يَشْرَبُ بِهَا ويشرب، يقولون: بمن "يشرب منها"؛ لأن العين لا يشرب بها، وإنما يشرب منها، فالكوفيون يقولون: إن الباء مضمنة معنى حرف آخر وهو مِن، وإن حروف الجر تتناوب، وطريقة البصريين يقولون: الفعل مضمن معنى فعل آخر، فيشرب مضمن معنى فعل آخر يصلح أن يعدى بالباء وهو يرتوي بها، فقالوا: هذا أبلغ في المعنى، فدل على الشرب إضافة إلى الارتواء، لكن إذا قلنا: إن ردف كما يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: قال ابن عباس: "أن يكون قرب إلى آخره"، قال: وإنما دخلت "اللام" في قوله: رَدِفَ لَكُمْ؛ لأنه ضُمن معنى "عَجِل"، فعجل يعدى باللام، عجل لكم، فيكون بهذا الاعتبار قد دل على معنى لحق، وتبع إضافة إلى عجل، وبعضهم فسر رَدِفَ لَكُمْ، قال: أي اقترب لكم، وبهذا الاعتبار لا تكون اللام زائدة، وهكذا قول من قال: رَدِفَ لَكُمْ أي دنا لكم كما يقول الفراء، فدنا تعدى باللام، والمعنى قريب، يعني دنا، واقترب، وأزف كما يقول ابن جرير - رحمه الله -.
وقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ قال ابن عباس: يعني: وما من شيء في السماء والأرض إلا في كتاب مبين، هذا القول يشمل ما قاله السلف : وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ يعني ما من شيء في السماوات، ولا في الأرض؛ إلا في كتاب مبين، وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ، وكونه مُّبِينٍ يعني مبين لمن نظر فيه وقرأ، مبين كقوله - تبارك وتعالى -: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [سورة الحج:70]، فهذا من أحسن ما تفسر به الآية، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن الذي لا يشك في صحته، أعني في المفردة المعينة، وتفسير القرآن بالقرآن يتفاوت، فأحياناً قد يعمد المفسر إلى شيء من هذا فيخطئ، قد يكون محتملاً، وقد يكون في غاية الظهور كهذا.