السبت 28 / صفر / 1447 - 23 / أغسطس 2025
فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۖ إِنَّكَ عَلَى ٱلْحَقِّ ٱلْمُبِينِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي: في أمورك، وبَلّغ رسالة ربك إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ أي: أنت على الحق المبين وإن خالفك مَنْ خالفك، مِمَّنْ كتبت عليه الشقاوة، وحَقَّت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية؛ ولهذا قال: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى أي: لا تسمعهم شيئًا ينفعهم، فكذلك هؤلاء على قلوبهم غشاوة، وفي آذانهم وَقْر الكفر؛ ولهذا قال: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ۝ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي: إنما يستجيب لك مَنْ هو سميع بصير السمع والبصر النافعُ في القلب والبصيرة، الخاضع لله، ولما جاء عنه على ألسنة الرسل - عليهم السلام -".

قوله - تبارك وتعالى -: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ذكره بعد قوله: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ۝ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ هذا فيه عبرة كبيره نحتاج إليها دائماً لاسيما مثل هذه الأوقات التي يستطيل فيها أعداء الله من الكافرين، والمنافقين، وتظهر قرون النفاق، ويحصل بسبب ذلك فتنة لمن شاء الله فتنته، فالله - تبارك وتعالى - هو الذي يتولى الحكم والفصل بين العباد فيما كانوا فيه يختلفون، فيجازي كلًّا بعمله، وليس ذلك إلينا، وإنما علينا أن نبين حقائق الدين، وأن نتمسك به، ونسلك صراط الله المستقيم من غير تردد، ولا وجل، متوكلين في ذلك كله على الله، وإذا كان السالك يثق بالطريق التي سلكها أنه على الحق المبين؛ حصل له بذلك الثبات، يعرف الطريق، ويحصل له التوكل، فإذا لم يحصل له التوكل ضعف، وكثرت مخاوفه، كما قال الله - تبارك وتعالى -: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ [سورة آل عمران:175] يعني يخوفكم من أوليائه، يعظمهم في نفوسكم، فتهابونهم، وتخافونهم، فمن لم يحصل له التوكل لربما حصل له التراجع، والتنازل عن الحق الذي آمن به، وإذا لم يحصل له كمال اليقين فإنه يكون قابلاً للتشكيك، فيحصل له اضطراب، ويحصل له تحير، وتساؤلات في نفسه هل هو على حق أو لا؟، وهذا يوجد عند بعض الذين لا بصر لهم، ويسمعون مثل هذه الشبهات، ومثل هذه الفِراء، والأقاويل الكاذبة، والطعون في أهل الإيمان، وأئمتهم من الأحياء، والأموات، والتشكيك في الثوابت، فيبدأ بعض الناس يتحير ويتردد فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ الحافظ ابن القيم له كلام قصير في هذا فقال - رحمه الله تعالى -: "قال تعالى: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ، وفي ذكر أمره بالتوكل مع إخباره بأنه على الحق؛ دلالة على أن الدين بمجموعه في هذين الأمرين: أن يكون العبد على الحق في قوله، وعمله، واعتقاده، ونيته، وأن يكون متوكلاً على الله، واثقاً به؛ فالدين كله في هذين المقامين"[1]، وقال - رحمه الله -: "فأمر - سبحانه - بالتوكل عليه، وعقب هذا الأمر بما هو موجب للتوكل، مصحح له، مستدعٍ لثبوته، وتحققه، وهو قوله - تعالى -: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ فإن كون العبد على الحق يقتضي تحقيق مقام التوكل على الله، والاكتفاء به، والإيواء إلى ركنه الشديد، فإن الله هو الحق، وهو ولي الحق، وناصره، ومؤيده، وكافٍ من قام به، فما لصاحب الحق أن لا يتوكل عليه، وكيف يخاف وهو على الحق"[2] انتهى.

وهذا كقوله - تبارك تعالى -: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ۝ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ۝ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [سورة الأحزاب:1-3] نهاه عن طاعة الكافرين، والمنافقين، ثم أمره باتباع ما يوحي إليه، وفي هذه الحال سيصوبون إليه سهامهم قال: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وقوله - تبارك وتعالى - هنا: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ابن كثير - رحمه الله - هنا يقول: لا تسمعهم شيئاً ينفعهم، إذ الموتى حقيقة من فارقت روحهم جسدهم، وهذا الذي قال به شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن الموتى لا يسمعون، وهذه يحتج بها جمع من أهل العلم على مسألة سماع الأموات، والآية تحتمل هذا المعنى، وتحتمل معنى آخر أن المقصود بالموتى موتى القلوب، بدليل أنه قال بعده إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، ثم قال: إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ فقابل هذا بهذا لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى يعني موتى القلب، إنما تسمع أصحاب القلوب الحية الذين وصفهم بالإيمان بآياته - تبارك وتعالى -، فالآية تحتمل هذا وهذا، ولهذا تجد ابن كثير - رحمه الله - ربط بين المعنيين يعني إن كنت لا تسمع الموتى حقيقة؛ فكذلك موتى القلوب فإنهم بمنزلتهم، كما أنك لا تسمع الأموات فإن هؤلاء بمنزلة الأموات؛ لأنهم موتى القلوب فإنك لا تسمعهم سماعاً ينفعهم هذا هو المراد، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أشار إلى هذا المعنى، ولا شك أن بين المعنيين ملازمة يعني الذين قالوا: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى حقيقة قالوا: هذا ذكر من أجل التوصل إلى المعنى المشار إليه، فكذلك هؤلاء لأنهم موتى، وإن كانت أرواحهم لم تفارق أجسادهم.

وقوله - تبارك وتعالى -: إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ [سورة الروم:53] قال: أي إنما يستجيب لك من هو سميع بصير، السمع والبصر النافع في القلب والبصيرة، الخاضع لما جاء إلى آخره، فهم مسلمون يعني هذا يحتمل أن يكون ذكر على سبيل الوصف لهؤلاء الذين ينتفعون، ويحتمل أن يكون ذلك مذكوراً للتعليل إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ، ولهذا يحصل لهم الانتفاع، ويسمعون سماع منتفع، يتعظون بما يسمعون، يعني كيف يكون إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ؟ أي: الإسلام هو الخضوع، والانقياد، فهم خاضعون، منقادون، فهؤلاء هم الذين يستمعون لك، والفاء في فهم تعليلية الذين يسمعون سماع انتفاع هم الذين يؤمنون بآيات الله - تبارك وتعالى - وذلك أنهم خاضعون منقادون، فهم مسلمون، هذا إذا حُمل على أن الفاء للتعليل.

  1. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، للإمام ابن القيم (2/127).
  2. طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم (388).