قوله - تبارك وتعالى -: حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا فسره جمع من أهل العلم بأن المراد أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي ابتداءً من غير علم، ولا إحاطة، ولا بصر، ولا نظر في دلائل ما جاءت به الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، ودلائل الحق، والتوحيد، والإيمان؛ يعني أنكم بادرتم بالكفر دون تبصر، ولا نظر، ولا تأمل، ولا معرفة، وإنما ابتدرتم ذلك عن جهل، وعمى على سبيل العناد، والمكابرة، ولم يصدر ذلك عن تمحيص، وتفكير، وتأمل، ودراسة للحجج، والآيات التي جاءت بها الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وهذا فيه عظة وعبرة لكل من بادر إلى تكذيب شيء دون نظر، ولا تبصر من غير دراسة، ولا تمحيص، وإنما أنكره مباشرة ولم يقبله، تجد هذا في بعض المنتسبين للإسلام، ولربما يسمع الحديث عن رسول الله ﷺ فيسرع إلى إنكاره، وتكذيبه؛ لأن ذلك لم يتفق مع عقله القاصر، وفهمه المعوج، يقول: هذا ما يكون، هذا كذب على النبي ﷺ تقول: الحديث في الصحيحين! يقول: وإذا كان في الصحيحين! تجد هذه اللوثة كثيراً لدى بعض أبناء المسلمين، لربما الذين ذهب كثير منهم، وتلقوا عن الغرب، وتأثروا بمناهجهم في التفكير، وغلبت عليهم النزعة المادية، فصار الواحد منهم يبادر، ويكذب بالنصوص، ويجترئ على الله من غير نظر، ولا تمحيص، ولا دراسة، ولا علم له بقليل، ولا كثير أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فـ"أم" هذه هي المنقطعة، يعني أم أيُّ شيء كنتم تعملون حتى شغلكم ذلك عن النظر في دلائل الحق، وبراهين الإيمان، فما الذي جعلكم تتحولون عما يجب النظر فيه، والتعرف على حقيته بحيث أشغلكم ذلك عن هذا النظر، والفكر، والاستدلال؟، وقوله - تعالى - هنا: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ بعضهم يقول: كلمة العذاب فهم لا ينطقون، وبعضهم يقول: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم يعني أنه يختم على أفواههم فهم لا ينطقون، فتشهد عليهم جوارحهم، فيكون قوله: فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ تفسيراً لوقوع القول عليهم، ولعل الأول أقرب - والله تعالى أعلم -، وهو الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أي حق العذاب وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة السجدة:13]، وقوله - تبارك وتعالى -: فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ يعني من أهل العلم من حمله على معنى وهو النطق الذي ينفعهم، والذي يحصل لهم به تخفيف، أو قبول عذر، أو تخلص من العذاب أو نحو ذلك، هم لا ينطقون نطقاً يحصل به النفع، لكنهم يتكلمون بدليل قوله - تعالى - عنهم: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [سورة الزخرف:77]، ورَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا [سورة المؤمنون:107] وما شابه ذلك مما أخبر الله به عن قول أهل النار، وعلى كل حال من أهل العلم من حمله على هذا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ جمعاً بين الآيات، ومن أهل العلم من قال: إن اليوم الآخر يوم طويل ففيه مقامات لا ينطقون، يختم على أفواههم، فإذا شهدت عليهم الجوارح، ثم بعد ذلك تنطق الألسن، وتشهد عليهم؛ ففي حين لا ينطقون، وفي حين ينطقون - والله تعالى أعلم -.