الجمعة 25 / ذو القعدة / 1446 - 23 / مايو 2025
فَأَخَذْنَٰهُ وَجُنُودَهُۥ فَنَبَذْنَٰهُمْ فِى ٱلْيَمِّ ۖ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ أي: طغوا، وتجبروا، وأكثروا في الأرض الفساد، واعتقدوا أنه لا معاد، ولا قيامة، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ۝ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [سورة الفجر:13-14]، ولهذا قال هاهنا: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ أي: أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة فلم يبق منهم أحد فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ۝ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي: لمن سلك وراءهم، وأخذ بطريقتهم في تكذيب الرسل، وتعطيل الصانع، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ أي: فاجتمع عليهم خزي الدنيا موصولاً بذُلِّ الآخرة كما قال تعالى: أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ [سورة محمد:13].

وقوله: وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً أي: وشرع الله لعنتهم ولعنة ملكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عباده المتبعين رسله، وكما أنهم في الدنيا ملعونون على ألسنة الأنبياء وأتباعهم كذلك وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ قال قتادة: وهذه الآية كقوله تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [سورة هود:99]".

 

قوله: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ قال: "أي: لمن سلك وراءهم، وأخذ بطريقتهم في تكذيب الرسل"، ويمكن أن يكون المراد - والله تعالى أعلم -: لمن اتبعهم من أهل زمانهم، فكانوا بهذه المثابة، فكما أن موسى - عليه الصلاة والسلام - كان يدعو إلى توحيد الله - تبارك وتعالى -؛ فهؤلاء يدعون إلى النار، وما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا قول يدل عليه ظاهر السياق - والله تعالى أعلم -، وإن كان للمفسرين في هذا أقوال أخرى، لكن لعل هذا هو الأقرب إلى السياق، ويشبه ما ذكره الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في معناها، وقوله - تبارك وتعالى -: وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً قال: "أي: وشرع الله لعنتهم، ولعنة ملكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عباده المتبعين لرسلهم، كما أنهم في الدنيا ملعونون على ألسنة الأنبياء" كذلك يوم القيامة ... إلى آخره، يعني هذا يحتمل، والمقصود بإتباعهم باللعنة في الدنيا أن الله شرع لأهل الإيمان أن يلعنوهم، أو أن الله لعنهم في الدنيا، والآخرة، لعنوا في الدنيا، والآخرة، مثل هذا الاستعمال وارد في كتاب الله، وفي سنة رسوله ﷺ، ويمكن أن يكون ذلك من لعن الله ، وحينما يقال: إن الله شرع لأهل الإيمان لعْنهم فإن المشروعية قدر زائد على الإباحة، فالمشروع ما طلبه الشارع إما وجوباً، أو ندباً، بخلاف المباح فإنه لا يقال له: مشروع ولكن يقال: إنه جائز مثلاً أو نحو ذلك، وإن كان الجواز أوسع من الإباحة، فقد يدخل فيه استعماله الأوسع الواجب والمندوب؛ باعتبار أنه سائغ شرعاً، فهل الله شرع لعنة فرعون لأهل الإيمان؟ وهل اللعن مشروع لنا أصلاً؟ فالنبي ﷺ يقول: المؤمن ليس باللعان، ولا الطعان، ولا الفاحش، ولا البذيء[1]، وأخبر أن اللعانين لا يكونون شفعاء يوم القيامة، ولا شهداء - يعني على الناس -، وغاية ما يقال في اللعن: إنه أمر جائز في من يستحق ذلك على خلاف في لعن المعين، والجمهور يرون أن ذلك لا يجوز في المعين، لكن في من يسوغ لعنه على وجه العموم: الجنس، والصنف، والنوع، وما أشبه ذلك، من فعل كذا لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة الأعراف:44]، فلو قيل: إن ذلك كان من الله أي أن الله لعنهم في الدنيا، وفي الآخرة، كما في قوله - تبارك وتعالى -: وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [سورة هود:99]، ولا يلزم من قوله: وَأُتْبِعُواْ، وَأَتْبَعْنَاهُمْ أن تكون لعنة بعد لعنة، ما يلزم هذا - والله أعلم -، إنما يكون ذلك بمعنى مطلق الإلحاق - والله تعالى أعلم - يعني أُلحقت بهم اللعنة، أتبعهم لعنة فلا يكون ذلك بالضرورة - والله تعالى أعلم - أنه حصل لهم لعن من الله - تبارك وتعالى - في الدنيا، وأُتبعوا بلعنة أخرى من قِبل أهل الإيمان - والله  أعلم -، وقوله - تبارك وتعالى -: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ هنا من المقبوح يعني المطرود المبعد، هذا هو المقبوح، وهذا قريب من معنى اللعن، وقد فسره بعضهم بالمهلكين الممقوتين، وأصل القبح معروف مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ يعني من الموصوفين بذلك، موصوفين بالقبح، والقبح هو الكراهة إن كان في الأمور المنظورة المشهودة فهو كراهة في المنظر، وإن كان في المعاني فهو ما يسوء منها، وإن كان في الكلام فهو ما يكون فاحشاً أو نحو ذلك، ما يحمل المعاني السيئة، وعلى كل حال فهؤلاء يوم القيامة من المقبوحين يعني من المبعدين من المطرودين، ولا يبعد من هذا المعنى قول من قال: إنهم من المهلكين الممقوتين فإن ذلك إما أن يكون من أسباب القبح، أو من توابعه، ولوازمه، فقد يفسر الشيء ببعض لوازمه، والأمر في ذلك قريب - والله تعالى أعلم -.

  1. رواه أحمد في المسند برقم (3948)، وقال محققوه: إسناده صحيح.