كلام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قوله: فَلَمّا جَآءَهُمُ الْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ يقول مخبراً عن القوم الذين لو عذبهم قبل قيام الحجة عليهم، حملها على هذا المعنى العام، وأهل العلم في ذلك منهم من يقول: إن المقصود فَلَمّا جَآءَهُمُ الْحَقّ مِنْ عِندِنَا يعني كفار قريش لما جاءهم محمد ﷺ قالوا: لولا أوتي مثل ما أوتي موسى - عليه الصلاة والسلام -، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، وبعضهم يقول: إن ذلك من قول اليهود، وكما سيأتي في قوله - تبارك وتعالى -: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا فمن نظر إلى أن اليهود لم يكفروا بما أوتي موسى مثلاً، أو من اعتقد ذلك قال: إن اليهود ما قالوا عن موسى - عليه الصلاة والسلام -: إنه ساحر، أو إن التوراة سحر، وقال: هذا في كفار قريش، في كفار العرب من المشركين هم الذين كفروا بما جاء به موسى - عليه الصلاة والسلام -، ومن نظر إلى أن ذلك وقع من اليهود، وأنهم حصل منهم من الكفر، والعنت مع موسى - عليه الصلاة والسلام - قال: إن هذا من قول اليهود، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال: "يقول الله - تعالى - مخبراً عن القوم الذين لو عذبهم قبل قيام الحجة عليهم لاحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول: إنهم لما جاءهم الحق"، لكن مثل هذا الكلام الذي يقوله ابن كثير - رحمه الله - يصدق على أهل الفترة، يصدق على المشركين؛ لكن لا يقطع لهم بذلك؛ لأنه لو عُذب قوم من الأقوام قبل أن يأتيهم إنذار فيما عذبوا به لقالوا: رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ فقطع معاذيرهم، ولكن هذا يتوجه إلى أهل الفترة بصورة أخص، فهو بهم أعلق، ويدل على أن ذلك - والله تعالى أعلم - في المشركين، فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى هذا يحتمل - والله تعالى أعلم - أنهم قالوا ذلك على سبيل التعنت، وبعضهم يقول: إن اليهود هم الذين قالوا لهم هذا الكلام، قالوا لهم: طالبوه أن يأتي بمثل ما جاء به موسى - عليه الصلاة والسلام - من الآيات، والخوارق؛ كالعصا ونحوها، ولَوْلَا بمعنى هلا أوتي مثل ما أوتي موسى.
الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هناك قال: مخبراً عن القوم الذين لو عذبهم قبل قيام الحجة، فجاءت العبارة عامة، ثم هنا قال: "ولهذا قال: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا أي أوَ لم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة"؟!، وهو لا يقصد كل البشر؛ لأنه ما كل البشر كفروا بما جاء به، لكن وجد من البشر من كفر مع مشاهدة تلك الآيات كالعصا ونحوها أَوَلَمْ يَكْفُرُوا ما حصل الكفر من البشر مع مشاهدتهم لهذه الأشياء، فهم شاهدوا الآيات من قبل سواءً ما أعطي موسى - عليه الصلاة والسلام -، أو الأقوام الذين كانوا في زمن الرسل الذين جاءوا بالآيات كقوم صالح - عليه الصلاة والسلام - مثلاً، ومع ذلك حصل منهم الكفران فهذا كلام ابن كثير - رحمه الله - عممه في الناس، في البشر، في المكذبين أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ فهنا الذين كفروا على كلام ابن كثير ليس هم الذين طالبوا، أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ يعني هل كان الكفار من المشركين مثلاً في مكة قد كفروا بما جاء به موسى؟ أو أن تلك الرسالة أصلاً لم توجه إليهم؟ فإن موسى - عليه الصلاة والسلام - ما أرسل إلى العرب، وإنما أرسل إلى بني إسرائيل، ولذلك اليهود هم من أقل أهل الديانات اليوم في الأرض؛ لأنهم لا يدْعون غيرهم، لا يتوجهون بدعوتهم إلى الناس؛ بخلاف النصارى الذين ملئوا الأرض جنداً من جند إبليس يدعونهم إلى هذا الباطل، والضلال، والدين المحرف، فاليهود لا يدْعون، بل هم في خصومة وجدال اليوم في هذه العصابات التي جاءت من كل مكان: من هو اليهودي؟ جدل عندهم فيعتبرون اليهودي من كانت أمه يهودية بغض النظر عن أبيه، فيوجد أناس آباؤهم من اليهود ولكن الأمهات لسن من اليهود، فهم يجادلون هل هؤلاء يستحقون أن يوصفوا بأنهم يهود أو لا؟؛ لأنه تجمّع لهم من الأحابيش، وأهل البلاد الشرقية، والبلاد العربية، والبلاد الغربية؛ شراذم، فهم في جدل ولغط مَن الذي يستحق أن يكون يهودياً؟ فهم يرون أن هذا لا يستحقه العرب مثلاً، أو الأمم الأخرى؛ لأنهم يقولون عنهم: "جُنيم" يعني حمير اليهود، وأن الله خلقهم من أجل أن يركبهم اليهود فقط، فهم حمير في مِسلاخ إنسان؛ ليركبهم اليهود؛ هذه عقيدة اليهود، والنصارى جاء في كتابهم المحرف أن عيسى ﷺ قال: "إنما بعثت لهداية خراف بني إسرائيل الضالة"، فلو صح هذا، أو على الأقل يحتج عليهم بهذا أنه ما دام جاء لهداية هذه الخراف الضالة، فلماذا تصدرون دعوتكم إلى الأفارقة وغيرهم من الأمم في شرق الأرض، وغربها؟ وإنما جاء عيسى - عليه الصلاة والسلام - إلى بني إسرائيل كما قال الله : وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة آل عمران:49] فهو أُرسل إليهم إذاً، ومع ذلك هناك جمعيات تنصيرية ميزانيتها بالمليارات، وهناك جيوش من المنصرين من المتفرغين وغيرهم من الأطباء وغيرهم، وطائرات، وأشياء هائلة تغزو العالم، فكلام ابن كثير - رحمه الله - عام، وابن جرير - رحمه الله - يرى أن ذلك في اليهود أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى، وقد فهم بعض المعلقين على تفسير ابن جرير، أو بعض مختصراته؛ أن هذا فيه اضطراباً يعني كلام ابن جرير - رحمه الله -، فهم نظروا إلى أنه قال في الأولى: فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ يعني كفار قريش، وهنا قال: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قال: يعني: اليهود كيف هنا قال: قريش، وهنا قال: اليهود؟ نعم هو يقول هناك فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا يعني جاء المشركين، قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ، أَوَلَمْ يَكْفُرُوا يعني الذين بعث فيهم موسى ﷺ يعني اليهود، فكلام ابن جرير - رحمه الله - غير متناقض، ولا إشكال فيه، لكن يبقى: هل هذا هو المعنى الراجح، أو أن ما ذكره بعض أهل العلم من أن المراد المشركون، الآن من الذي كفر بما جاء به موسى وقال: سِحْرَانِ تَظَاهَرَا هل هم اليهود، هل اليهود كفروا بما جاء به موسى ﷺ؟ وإذا قلت: إنهم الذين بعث فيهم النبي ﷺ هل كانوا يكفرون بما جاء به موسى؟ كانوا يذهبون إلى اليهود، ويسألونهم، ويقولون: أنتم أهل كتاب، نحن أهدى أم محمد ﷺ؟، فعلى كلام ابن جرير - رحمه الله - تكون الضمائر هنا متفرقة، بعض الضمائر يرجع إلى المشركين، وبعض الضمائر يرجع إلى اليهود، وكلام ابن كثير - رحمه الله - الضمائر تكون فيه متسقة، والأصل توحيد مرجع الضمائر إذا أمكن، فقوله: فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ إذا قيل: إنهم المشركون، فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا أي: المشركون، لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا أي المشركون، بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا أي المشركون، سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ قَالُوا أي المشركون، قُلْ فَأْتُوا يخاطبهم بهذا، وهكذا إذا قلت: إن الجميع في اليهود فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا يعني اليهود، بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا يعني اليهود، سِحْرَانِ تَظَاهَرَا فعلى هذين القولين تكون الضمائر متسقة متحدة في مرجعها، وكذلك ما ذكره ابن كثير أن ذلك في مَن قاله من الناس ممَن كذّب، وعلى كلام ابن جرير - رحمه الله - تكون الضمائر متفرقة، فهذه طريقة في الترجيح أنه يمكن أن يُرجَّح قول على قول بأن ذلك يجري على قاعدة اتحاد مرجع الضمائر، لكن يبقى هل هي في اليهود أو في المشركين؟، هذا يحتمل فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى ولكن انظر إلى الآيات التي قبلها ما الذي ذكره الله - تبارك وتعالى - فيها؟ الله يقول: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ... إلى أن قال: وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ فهؤلاء لجهالتهم، وبعدهم، وانقطاع زمانهم عن بعث الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أرسل إليهم الله هذا الرسول رحمة منه؛ لئلا يحتجوا بأنه ما أرسل إليهم رسولاً إذا وقع بهم العذاب، ثم قال هنا: فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ فهو يتحدث عن هؤلاء الذين كانوا بهذه الأوصاف، لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ الذين كانوا في فترة، فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا، وهذا يمكن أن يصدر من المشركين، وإن لم تكن دعوة موسى - عليه الصلاة والسلام - متوجهة إليهم، يمكن أن يقولوا عن موسى ﷺ مثل هذا - والله تعالى أعلم -، فالسياق والسباق كله يدل على أن ذلك في من بُعث فيهم النبي ﷺ لِتُنذِرَ قَوْمًا، فَلَمَّا جَاءهُمُ يعني هذه الغيوب التي أخبرناك عنها، وكأنك تشاهد - ومع ذلك لم تكن حاضراً - وأتيت بها لتنذر هؤلاء القوم الذين كانوا في هذه الفترة، انقطاع عن زمن الرسالات، أو انقطاع من الرسالات فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا هذه كانت النتيجة قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى - والله أعلم -.
"قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا أي: تعاونا، وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ أي: بكل منهما كافرون، ولشدة التلازم، والتصاحب، والمقاربة بين موسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - دل ذكر أحدهما على الآخر".
هذا يسمونه بالاكتفاء يعني أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ ذكر موسى - عليه الصلاة والسلام - ولم يذكر هارون ؛ لأن موسى كبير أنبياء بني إسرائيل، وهارون - عليه الصلاة والسلام - كان بمثابة الوزير له مع كونه نبياً - عليه الصلاة والسلام -.
"قال مجاهد بن جبر: "أمرت اليهود قريشاً أن يقولوا لمحمد ﷺ ذلك فقال الله: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا".
قرأ الجمهور بـقالوا ساحران تظاهرا.
"قال: يعني موسى، وهارون ﷺ تَظَاهَرَا أي: تعاونا، وتناصرا، وصدق كل منهما الآخر".
على كلام ابن جرير ما سيرة اليهود، ما علاقة اليهود والله يقول: فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا يقول: في قريش، في المشركين قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى قال: اليهود، ابن جرير يمشي على هذا أن اليهود قالوا للمشركين: قولوا له هذا، فقال الله: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ يعني اليهود، قالوا ساحران تظاهرا يعني موسى، وهارون.
"وبهذا قال سعيد بن جبير وأبو رزين في قوله: ساحران يعنون موسى، وهارون، وهذا قول جيد قوي - والله أعلم -".
وبعضهم يقول: موسى، ومحمد ﷺ، وبعضهم يقول: إن اليهود قالوا ذلك في عيسى، ومحمد - صلى الله عليهما وسلم -، وإنهم لم يكفروا بموسى، وإنما قالوا: سحران تظاهرا وهذا فيه بعد؛ لأن عيسى - عليه الصلاة والسلام - لم يرد له ذكر هنا قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ساحران تظاهرا فهذا إذا قلنا: إنه يرجع إلى اليهود قَالُوا سِحْرَانِ.
"وأما من قرأ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا".
هذه قراءة متواترة، وهي التي نقرأ بها، وهي قراءة الكوفيين قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا.
"فقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس: "يعنون التوارة، والقرآن؛ لأنه قال بعده: قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ"".
قوله: هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ يعني: التوراة، والقرآن، وبعضهم يقول: الإنجيل، والقرآن؛ باعتبار أن اليهود قالوا ذلك، وإذا قلنا بأن السياق كله في المشركين قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا (قالوا ساحران تظاهرا) يحتمل أن يكون موسى، وهارون - عليهما الصلاة والسلام -، ويحتمل أن يكون موسى، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام -، والأول أقرب، وأقرب ممن قال: موسى، وعيسى - عليهما الصلاة والسلام -، أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا يعني موسى، وهارون؛ لأنه كان وزيراً لموسى ﷺ، وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [سورة طه:29-32]، وتَظَاهَرَا يعني تعاونا، وهنا قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ يمكن أن يكون القرآن، والإنجيل، أو التوراة، والقرآن؛ كما قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وابن جرير - رحمه الله - يرى أنهما التوراة، والإنجيل.
"وكثيراً ما يقرن الله بين التوارة، والقرآن كما في قوله تعالى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ... إلى أن قال: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ [سورة الأنعام:91-92]، وقال في آخر السورة: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ الآية [سورة الأنعام:154]، وقال: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [سورة الأنعام:155]، وقالت الجن: إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [سورة الأحقاف:30]، وقال ورقة بن نوفل: "هذا الناموس الذي أنزل على موسى "، وقد عُلم بالضرورة لذوي الألباب أن الله - تعالى - لم ينزل كتاباً من السماء فيما أنزل من الكتب المتعددة على أنبيائه أكمل، ولا أشمل، ولا أفصح، ولا أعظم، ولا أشرف؛ من الكتاب الذي أنزل على محمد ﷺ وهو القرآن، وبعده في الشرف، والعظمة؛ الكتاب الذي أنزله على موسى بن عمران ، وهذا الكتاب الذي قال الله فيه: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [سورة المائدة:44]، والإنجيل إنما أُنزل متمماً للتوراة، ومُحلاً لبعض ما حرم على بني إسرائيل، ولهذا قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أي فيما تدافعون به الحق، وتعارضون به من الباطل".
هذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يرجح أن المراد بـ قَالُوا سِحْرَانِ يعني القرآن، والتوراة، وهو في الوقت نفسه يصلح أن يكون جواباً لسؤال يرِد وهو لماذا يُذكر موسى ﷺ من بين الأنبياء كثيراً في القرآن، وتذكر التوراة كذلك؟ يقال: إن رسالته - عليه الصلاة والسلام - كانت من أعظم الرسالات، وكان له من الأتباع كثير، ولما رأى النبي ﷺ سواداً سأل عنهم ظن أنهم هذه الأمة؛ فأخبر أن هؤلاء قوم موسى[1]، وموسى - عليه الصلاة والسلام - في قصة المعراج بكى، وعلل هذا بأن النبي ﷺ من بعده يأتي، ويكون له من الأتباع أكثر منه[2]، فالحاصل أنهما أمتان عظيمتان، بنو إسرائيل اصطفاهم الله على العالمين، وآتاهم من الآيات، والبينات، وأنواع الإفضال والإنعام؛ ما قصه الله علينا في القرآن، فلما حصل منهم الكفر، والتعنت، ومحادة الله ؛ لعنهم، ومزقهم، إذا ذكر الخبث، والخبائث؛ توجه ذلك إلى اليهود توجهاً أولياً - نسأل الله العافية -، الخبث، والخبائث في البشر، والكتاب الذي أعطاه الله لموسى - عليه الصلاة والسلام - وهو التوراة شريعة موسى - عليه الصلاة والسلام - كانت من أوسع الشرائع، وكتابه كان من أشرف الكتب، فيُذكر كثيراً بالإضافة إلى أن الله - تبارك وتعالى - جعل النبي ﷺ هو خاتم الأنبياء والمرسلين لا نبي من بعده، وقد جرى لموسى ﷺ مع قومه أشياء كثيرة جداً، فالله - تبارك وتعالى - قص هذه الأخبار على هذه الأمة؛ لتتعظ، وتعتبر في أحوالها المختلفة؛ في حال الطمع، وفي حال الشدة، وفي حال الركون، والدعة، وفي حال التكاليف الشاقة؛ وما أشبه ذلك، ذكر الله كل هذه التفاصيل من أجل أن يكون ذلك عبرة لهذه الأمة.
- رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب وفاة موسى وذكره بعد، برقم (3229)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب، برقم (220).
- رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3035)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السماوات وفرض الصلوات، برقم (164).