الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
أَفَمَن وَعَدْنَٰهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَٰقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَٰهُ مَتَٰعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ: يقول: أفمن هو مؤمن مصدق بما وعده الله على صالح أعماله من الثواب الذي هو صائر إليه لا محالة، كمَنْ هو كافر مكذب بلقاء الله، ووعده، ووعيده، فهو ممتع في الحياة الدنيا أيامًا قلائل ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ قال مجاهد، وقتادة: من المعذبين.

ثم قد قيل: إنها نزلت في رسول الله ﷺ وفي أبي جهل، وقيل: في حمزة وعلي وأبي جهل، وكلاهما عن مجاهد، والظاهر أنها عامة، وهذا كقوله تعالى إخباراً عن ذلك المؤمن حين أشرف على صاحبه وهو في الدرجات وذاك في الدركات: وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [سورة الصافات:57]، وقال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [سورة الصافات:158]".

فقوله: وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ليس المقصود للحساب أو للنشور أو نحو ذلك، و إنما للعذاب ولهذا فسرها ابن جرير - رحمه الله - بهذا: يعني المُشهَدين عذاب الله، وأليم عقابه لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وهذه الآية - وكثير في كتاب الله تؤخذ منها أصول ثابتة كقوله - تبارك وتعالى -: وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا اتباع الحق لا يمكن أن يحصل معه التخطف، وكذلك هنا أيضاً في قوله - تبارك وتعالى -: ومَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هذا أصل عام، وهذا قد يقال فيه: القواعد القرآنية أمور ثابتة مقررة من الله - تبارك وتعالى - لا تتخلف أحكامها، كل ما آتيناهم من هذا العرَض الزائل فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، والمتاع كاسمه يزول، يتمتع به الإنسان مدة ثم يزول، والعبرة في هذا ظاهرة، ولا يحتاج إلى تطويل مهما يسكن الإنسان، وخذوا هذه قاعدة في الحياة الدنيا: مهما يلبس من اللباس، ومهما يركب من المراكب، ومهما يسكن من القصور، والدور الجميلة الأنيقة وما أشبه ذلك عما قليل تتحول بهجته، ويذهب رونقه، فلا يُلفت نظره، ولا يُشبع نهمته، وتتطلع نفسه إلى غيره، هذا في اللباس، والمراكب، وفي المحال التي يألفها حتى أماكن العمل، أو قد يعمل في بناء فخم مَن قصده لربما يتصاغر نفسه، ويحصل في قلبه من المهابة لمَن بداخله ونحو ذلك، ولكن إذا اعتاده الإنسان، وألفه؛ لا يسترعي انتباهه، وقد تنظر إلى لوحة جميلة تعجبك، أو حزمة من الزهور أو نحو ذلك في حوض من الأحواض تعجبك، وتأسرك حتى تشتريها، وما هي إلا أيام ثم بعد ذلك لا تنظر إليها، ولربما علق الإنسان في بيته قصيدة أو أشياء تتعلق بالسيرة أو نحو ذلك في برواز تعب في إعدادها، أو في جلبها، أو في تزيينها أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك لا تُقرأ، ولا تلفت النظر، وكأنها غير موجودة، ولكن أول ما وضعها هو يرمقها، وينظر إليها، وتشده، فهذه الأشياء لربما تمتد إليها النفس، وينظر إليها الإنسان من قصور ونحو ذلك،  ويظن أن أهلها يعيشون في حال من الغبطة، لا، ليس كذلك، وقد يغتبط الإنسان في أول الأيام لكن بعد هذا يألف ما يشاهده، وتزهد فيه نفسه - وهذه قاعدة -، ثم يزول، ويذهب، ويتلاشى، وكل ما تجده من متاع بالٍ، أو من مركبٍ لربما يترفع عنه الإنسان، أو يأنف من ركوبه؛ كان في يوم من الأيام يتطلع إليه كثير من الناس، ولا يحصله إلا الواحد بعد الواحد، حتى صار إلى حال يزهد فيه أقل الناس مالاً، وهذا أمر مشاهد، فلا يغتر الإنسان بما فيها، ولا تشغله، وهذا المعنى الذي ذكره الله في قوله: أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هو أصل كبير في قياس الأمور، فكثيراً ما يقول الناس: هؤلاء الكفار عندهم بلاد خضراء، وأجواء جميلة، وأمطار، ونحن كل مره نستسقي، وأجواء صحراوية، وغبار، وجفاف، وأرض قاحلة، حر شديد، وبرد شديد، وأولئك عندهم كل شيء، والحياة عندهم مرتبة بكل شيء، قطارات بلا سائقين تمشي بدقة، وقطارات تحت الأرض، وقطارات تسير بسرعة عالية جداً كأنها طائرات، وكل شيء في الحياة مرتب، ومنظم، وكل الخدمات بكل بساطة تصلك إلى بيتك، وعن طريق البريد تستطيع أن توصل في يوم واحد ما تريد، لا تحتاج أن تراجع دوائر حكومية، ولا تقف في طوابير، ولا تأخذ رقماً، ولا تحتاج شيئاً من هذا إطلاقاً؛ حياة مرفهة، وكل شيء موفر لكن أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أهل الإيمان الله وعدهم بالآخرة كما قال النبي ﷺ لما ذكر له عمر فارس، والروم، وما هم فيه من النعيم، والنبي ﷺ ينام على حصير فيؤثر في جنبه: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟[1]أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فقد يتمتع الإنسان في هذه الحياة سبعين سنة بما فيها من المنغصات، وظلمة القلب، والصدر التي تعصف بهم، فيلجئون إلى الموت، والانتحار، والقلق، والكآبة على هذا الترفيه، والذين يعيشون في رفاهية لو وضعوا في بيئة صحراوية فإنه سيموت ربعهم من الحر، وثلاثة أرباعهم الباقية سيعانون من الاكتئاب، فتستريح منهم البلاد، والعباد أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ثم تقابل الخمسين سنة أو السبعين سنة مع ما فيها من الأكدار، والتنغيص، وظلمة الصدر؛ بنعيم بلا عد، ولا انتهاء، وهناك شجرة في الجنة يسير الراكب تحت ظلها مائة عام لا يقطعها، فالكرة الأرضية بهذا المقياس ما تأتي ثمرة صغيرة معلقة في هذه الشجرة، والأمطار التي تنزل عليهم، والبيوت التي يسكنونها، والطرق النظيفة الجميلة، والقطارات إلى آخره بمقابل ما أعده الله لأهل الإيمان، وأصحابُ البصيرة ما ينخدعون بهذا إطلاقاً، وإنما ادخر الله لهم الآخرة، نعيم الجنة، وأولئك ينتظرهم شيء لا يمكن للعقل أن يتصوره، هذا التمتيع مثل العلف الذي يعطى للبهيمة، وما تدري ماذا ينتظرها بعد أيام - والله المستعان -.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الطلاق، برقم (4629)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن وقوله تعالى: وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ [سورة التحريم:4]، برقم (1479).