الجمعة 04 / ذو القعدة / 1446 - 02 / مايو 2025
قَالَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ رَبَّنَا هَٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَٰهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ۖ تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ ۖ مَا كَانُوٓا۟ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ يعني: من الشياطين، والمَرَدَة، والدعاة إلى الكفر رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ فشهدوا عليهم أنهم أغووهم فاتبعوهم، ثم تبرءوا من عبادتهم كما قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ۝ كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [سورة مريم:81-82]، وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ۝ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [سورة الأحقاف:5-6]، وقال الخليل لقومه: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [سورة العنكبوت:25]، وقال الله - تعالى -: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ... إلى قوله: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:166-167]، ولهذا قال: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ أي: ليخلصوكم مما أنتم فيه كما كنتم ترجون منهم في الدار الدنيا، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ أي: وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة".

فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول في قوله - تبارك وتعالى -: قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ: يعني من الشياطين، والمردة، والدعاة إلى الكفر، فهذا جمعٌ من الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بيَّن أقوال السلف في هذه الآية، فبعض أهل العلم يقول: هم الشياطين الذين أضلوهم، وبعضهم يقول: هم الدعاة إلى الكفر الذين قادوهم، وأغروهم، وأغووهم بالكفر بالله ؛ فهذان قولان، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - جمع بينهما، وابن جرير - رحمه الله - فسر ذلك بالشياطين، فهؤلاء جميعاً شاركوا في إغوائهم يعني شياطين الإنس، وشياطين الجن، فهم الذين زينوا لهم الكفر بالله ، والضلال، والانحراف عن الصراط المستقيم، فيتبرؤون منهم يوم القيامة؛ ولهذا يقولون: رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ [سورة فصلت:29] وهم يتمنون الانتقام من هؤلاء، فهذا الجمع من الحافظ ابن كثير - رحمه الله - جيد، وأولى - والله تعالى أعلم - من ترجيح أحد القولين، وقوله: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ يقول: "شهدوا عليهم أنهم أغووهم، فاتبعوهم، ثم تبرءوا من عبادتهم"، وأتى بشواهد كعادته - رحمه الله - ففسر القرآن بالقرآن، وقوله ثم تبرؤوا من عبادتهم مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ يعني أنهم كانوا يعبدون أهواءهم، فلقد اتخذوا الأهواء آلهة، اتخذوا هواهم إلهاً يُعبد من دون الله - تبارك وتعالى -، وهذا باعتبار أن "ما" نافية مَا كَانُوا إِيَّانَا، فهم ينفون ذلك أصلاً يقولون: ما كانوا يعبدوننا، إذاً عبدوا أهواءهم، اتبعوا أهواءهم؛ هذا معنى، وتحتمل الآية أن تكون "ما" مصدرية، يعني تبرأنا إليك من عبادتهم، فتحتمل هذا وهذا، والمتبادر - والله تعالى أعلم -، والأقرب إلى السياق؛ أنها نافية، والشواهد التي ذكرها ابن كثير - رحمه الله - في هذا المعنى قد لا تكون قاطعة في حمل الآية على أحد المعنيين كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [سورة مريم:82] سيكفرون بعبادتهم فهذه في العبادة يكفرون بالعبادة، فإذا قالوا: مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ فهذا كفر منهم بعبادتهم، تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ تبرأنا إليك من عبادتهم، وإذا قلنا: إن "ما" مصدرية فأيضاً كل ذلك تبرؤٌ من عبادتهم، وهكذا في قوله: وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ۝ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [سورة الأحقاف:5-6]، فإذا قالوا: إنهم ما عبدونا فهذا كفر منهم بعبادتهم، وإذا قالوا: تبرأنا إليك من عبادتهم فهذا أيضاً كفر منهم بعبادتهم، وهكذا في سائر الآيات - والله تعالى أعلم -.

"وقوله: لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ أي: فودوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين في الدار الدنيا وهذا كقوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ۝ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [سورة الكهف:52-53]".

الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول في قوله - تعالى -: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ فَوَدُّوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين في الدار الدنيا، يتمنون الهداية في الدنيا يقول كقوله: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا ۝ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا هذا المعنى هو الذي اختاره أيضاً كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - تمنوا لو أنهم حققوا الهداية في الدار الدنيا، وبعض أهل العلم يقول: إن المعنى لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لأنجاهم ذلك، ولم يروا العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ وأن هناك مقدراً محذوفاً، لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لنفعهم، ولأنجاهم، لما حصل لهم هذا الذي رأوه من العذاب، هكذا قال بعض أهل العلم كالزجاج - رحمه الله -، وبعضهم يقول: هناك تقدير وهو: لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لما عبدوهم، أو لما دعوهم، وبعضهم يقول: إن التقدير لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لعلموا أن العذاب حق، وبعضهم يقول: لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لوجهٍ من الوجوه التي يدفعون بها عن أنفسهم العذاب لفعلوا، ولو يجدون مخرجاً، وطريقاً يتخلصون فيه من عذاب الله - تبارك وتعالى - لفعلوا، لكن هذا لا يخلو من بُعد - والله تعالى أعلم -، وقيل غير هذا كما يقول بعضهم: قد آن لهم أن يهتدوا لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ، فانظر في هذا كله وفي قول ابن كثير - رحمه الله -: "فوَدُّوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين في الدار الدنيا"، وهذا لا يبعد - والله تعالى أعلم -، ويحتمل أن يكون المعنى غير هذا وهو لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لعرفوا أن ما جاءت به الرسل حق، ومن ذلك عبادة الله ، وتوحيده الذي دُعوا إليه، وما أخبروا به من الحساب، والعقاب، والجزاء، والجنة والنار، لو أنهم كانوا يهتدون، لكنهم أدركوا هذا، وعاينوا الحقائق بعد فوات الأوان - والله المستعان -.