الخميس 03 / ذو القعدة / 1446 - 01 / مايو 2025
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْأَنۢبَآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَآءَلُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ النداء الأول عن سؤال التوحيد، وهذا فيه إثبات النبوات: ماذا كان جوابكم للمرسلين إليكم؟ وكيف كان حالكم معهم؟ وهذا كما يُسأل العبد في قبره: مَنْ ربك؟ ومَنْ نبيك؟ وما دينك؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأما الكافر فيقول: هاه..هاه، لا أدري[1]؛ ولهذا لا جواب له يوم القيامة غير السكوت؛ لأن مَنْ كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، ولهذا قال تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ.

وقال مجاهد: فعميت عليهم الحجج، فهم لا يتساءلون بالأنساب.

وقوله: فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا أي: في الدنيا، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أي: يوم القيامة، و"عسى" من الله موجبة، فإن هذا واقع بفضل الله ومَنّه لا محالة".

قوله - تبارك وتعالى -: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ، قال مجاهد: فعميت عليهم الحجج، أصله فعموا عن الأنباء، الناس هم الذين يعمون، ولكن يعبر بذلك مبالغة فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ تقول: عميت عليه الأخبار، عمي عليه الخبر، عمّى النبي ﷺ على قريش الخبر يعني عام الفتح، عمِى عليه الخبر يعني لم يظهر له، ولم يهتدِ إليه، والذي عمِي هو في الواقع الإنسان، وهذا استعمال عربي معروف، والقرآن نزل بلغة العرب فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ، فعموا عن الأنباء، العمى أصابهم ولكنه عكس ذلك مبالغة وقال: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ ما قال عميت عليهم الحجج مثلاً، والبراهين؛ لأن هذه الأشياء التي يتشبثون بها، ويتمسكون بها هي ليست من قبيل الحجج، ولا البراهين، إنما سماها أنباء، والأنباء هي الأخبار وإن كانت تطلق على الخبر الذي له خطب وشأن، يعني أخص من مطلق الخبر فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ يعني غابت عنهم الحجج، وذهبت واضمحلت، فهم لا يتساءلون، وقوله: فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا أي في الدنيا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أي: يوم القيامة، و"عسى" من الله موجبة، كما جاء عن ابن عباس - ا - وغيره أي متحققة الوقوع؛ لأن أصل معنى عسى أنها تفيد الترجي، تقول: عسى أن ينزل المطر، عسى أن يقدم زيد، عسى أن أُفلح في هذا الاختبار وما شابه ذلك، يكون ذلك للترجي، وإنما يحصل الترجي من الذي لا يعلم عواقب الأمور، فيكون منه الترجي، أما الله - تبارك وتعالى - فهو عالم بما كان، وما يكون، لا يخفى عليه خافية ، فإذا جاءت هذه اللفظة في كلام الله - تبارك وتعالى - من قوله، وخبره؛ فإن ذلك لا يُحمل على الترجي، فالترجي لا يكون من الله ، فأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن، فإذا صدرت من الله في كلامه لا على سبيل الحكاية عن قول أحد من الناس فإن ذلك يكون بمعنى الشيء المتحقق، معنى واجبة يعني واجبة التحقق، والوقوع، لكن حينما يذكر الله ذلك عن أحد كقوله مثلاً: عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي يعني سواء السبيل فهو يترجى، لكن إذا قال الله : عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً [سورة الممتحنة:7] فهذا للوجوب بمعنى أنه سيتحقق، وحصل هذا، فقد كان أبو سفيان من أشد أعداء النبي ﷺ،، وحاربه، ثم بعد ذلك تحول إلى الإيمان، وهكذا كبار المشركين عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو العامري، والحارث بن هشام، وصفوان بن أمية، والبقية التي بقيت بعد بدر، ونجوا من القتل؛ كبار المشركين كثير من هؤلاء آمن، فتغيرت حاله، وصار يجاهد في سبيل الله، وأبو سفيان هو أول من قاتل المرتدين في مقدمه من اليمن لما مات النبي ﷺ وهو في الطريق، فارتد من ارتد من العرب، فلقي ذا الخمار في طريقه وكان قد ارتد عن الإسلام فقاتله، وسهيل بن عمرو هو الذي ثبّت أهل مكة، وذكرهم بتأخر إسلامهم، وحذرهم من التراجع، والردة.

  1. رواه أبو داود، كتاب السنة، باب المسألة في القبر وعذاب القبر، برقم (4753)، وأحمد في المسند، برقم (18534)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1676).