"وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة القصص:68-70].
يخبر تعالى أنه المنفرد بالخلق، والاختيار، وأنه ليس له في ذلك منازع، ولا معقب فقال: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ أي: ما يشاء، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فالأمور كلها خيرها وشرها بيده، ومرجعها إليه.
وقوله: مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ نفي - على أصح القولين - كقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [سورة الأحزاب:36]".
يعني وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ يخلق ما يشاء ويختار مما خلق ما يشاء يختار لولايته كما يقول ابن جرير يختار للإيمان، للهداية، يختار من البشر كما يقول ابن القيم - رحمه الله - ما شاء، اختار الرسل، اختار كنانة من ولد إسماعيل مثلاً، واختار قريشا من كنانة، واختار من قريش بني هاشم، واختار النبي ﷺ من بني هاشم وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ خلق هؤلاء جميعاً، واختار هذا الاختيار، وهكذا أيضاً اختار من الملائكة رسلاً، واختار أيضاً من الناس أهل الإيمان، واختار الرسل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من بين سائر الناس، واختار الرسل - عليهم الصلاة والسلام - من الأنبياء، واختار أولي العزم من الرسل، واختار محمداً ﷺ وفضله على سائر الأنبياء والمرسلين، وهكذا يختار من البقاع: اختار مكة، واختار مِنى، وعرفة، ومزدلفة، وكل ذلك قد اختاره الله - تبارك وتعالى - من بين سائر البقاع بأعمال، ومقامات، وعبادات شريفة، وهكذا أيضاً اختار المدينة مهاجَراً لنبيه ﷺ، واختار بيت المقدس على غيره من البقاع وما إلى ذلك، فله الخلق وحده، وله الاختيار وحده، ليس لأحد أن يعقب على حكمه وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القرآن عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [سورة الزخرف:31-32] يعني النبوة نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [سورة الزخرف:32] فهذا كله لله ليس لأحد مع الله اختيار، هذا المعنى فهو اختيار بعد الخلق، وهنا الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول في: مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ إن "ما" نافية، وهذا هو الصحيح، يعني أنه لما أثبت الاختيار وحده دون ما سواه نفى أن يكون لهم الخيرة مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، ما كان لهم الاختيار، وبعضهم يقول: إن "ما" هذه موصولة وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ الذي فيه الخيرة، ويختار الذي فيه الخيرة هذا القول فيه ضعف - والله تعالى أعلم -، والحافظ ابن القيم - رحمه الله - له كلام في هذا المعنى في أكثر من كتاب نقتصر على واحد منها حيث قال - رحمه الله -: "وليس المراد هاهنا بالاختيار الإرادة التي يشير إليها المتكلمون بأنه الفاعل المختار، وهو - سبحانه - كذلك، ولكن ليس المراد بالاختيار هاهنا: الاجتباء، والاصطفاء؛ فهو اختيار بعد الخلق، والاختيار العام اختيار قبل الخلق فهو أعم، وأسبق، وهذا أخص، وهو متأخر، فهو اختيار من الخلق، والأول اختيار للخلق، وأصح القولين أن الوقف التام على قوله: وَيَخْتَارُ ويكون مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ نفياً أي: ليس هذا الاختيار إليهم بل هو إلى الخالق وحده، فكما أنه المنفرد بالخلق؛ فهو المنفرد بالاختيار منه، فليس لأحد أن يخلق، ولا أن يختار سواه، فإنه - سبحانه - أعلم بمواقع اختياره، ومحالِّ رضاه، وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له، وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه، وذهب بعض من لا تحقيق عنده ولا تحصيل إلى أن ما في قوله تعالى: مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ موصولة وهي مفعول "ويختار" أي: ويختار الذي لهم الخيرة، وهذا باطل من وجوه:
أحدها: أن الصلة حينئذ تخلو من العائد؛ لأن الخيرة مرفوع بأنه اسم كان والخبر "لهم"، فيصير المعنى: ويختار الأمر الذي كان الخيرة لهم، وهذا التركيب محال من القول، فإن قيل: يمكن تصحيحه بأن يكون العائد محذوفاً، ويكون التقدير: ويختار الذي كان لهم الخيرة فيه، أي: ويختار الأمر الذي كان لهم الخيرة في اختياره، قيل: هذا يفسد من وجه آخر وهو أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيها حذف العائد، فإنه إنما يحذف مجروراً إذا جر بحرفٍ جُر الموصولُ بمثله مع اتحاد المعنى، نحو قوله تعالى: يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [سورة المؤمنون:33]، ونظائره، ولا يجوز أن يقال: جاءني الذي مررت، ورأيت الذي رغبت ونحوه.
الثاني: أنه لو أريد هذا المعنى لنصب الخيرة، وشغل فعل الصلة بضمير يعود على الموصول، فكأنه يقول: ويختار ما كان لهم الخيرة أي: الذي كان هو عين الخيرة لهم، وهذا لم يقرأ به أحد ألبته، مع أنه كان وجه الكلام على هذا التقدير.
الثالث: أن الله - سبحانه - يحكي عن الكفار اقتراحهم في الاختيار، وإرادتهم أن تكون الخيرة لهم، ثم ينفي هذا - سبحانه - عنهم، ويبين تفرده هو بالاختيار كما قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القرآن عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [سورة الزخرف:31-32]، فأنكر عليهم - سبحانه - تخيرهم عليه، وأخبر أن ذلك ليس إليهم، بل إلى الذي قسم بينهم معايشهم المتضمنة لأرزاقهم، ومُدد آجالهم، وكذلك هو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل على حسب علمه بمواقع الاختيار، ومن يصلح له ممن لا يصلح، وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات، وقسم بينهم معايشهم، ودرجات التفضيل، فهو القاسم ذلك وحده لا غيره"[1] ا.هـ.
فهذا كلام ابن القيم - رحمه الله - يراجَع، فيرى أن "ما" نافية، وأن الوقف يكون تاماً على قوله: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ يعني مما يخلق، ثم نفى وقال: مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ.
- زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام ابن القيم الجوزيه (1/35).