الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ۝ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۝ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ۝ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ ۝ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [سورة آل عمران:190-194].
يقول الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أي: هذه في ارتفاعها، واتساعها، وهذه في انخفاضها، وكثافتها، واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات وثوابت، وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات، وزروع، وحيوان، ومعادن، ومنافع مختلفة الألوان، والروائح، والطعوم، والخواص.
وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أي: تعاقبهما، وتقارضهما الطول، والقصر، فتارة يطول هذا، ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيراً، ويقصر الذي كان طويلاً".

الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا جمع بين المعنيين، فبعض أهل العلم يقول: اختلاف الليل والنهار يعني التعاقب، هذا يأتي بعد هذا، وبعضهم يقول: هو ما يحصل من الطول والقصر، فالليل يأخذ من النهار كما هو الحال في الشتاء، والنهار يأخذ من الليل كما هو في الصيف، فكل ذلك - والله أعلم - داخل في قوله: وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فابن كثير - رحمه الله - جمع بين المعنيين.
"وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم، ولهذا قال تعالى: لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ [سورة آل عمران:190] أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون الذين قال الله فيهم: وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ* وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [سورة يوسف:105-106].
ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران:191] كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين - ا - أن رسول الله ﷺ قال: صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب[1] أي لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم، وضمائرهم، وألسنتهم".

بعض أهل العلم يخصص هذا بالصلاة، ويحتج عليه بهذا الحديث، لكن المعنى أعم من هذا، وقد يكون ما ذكروه إنما هو من قبيل التفسير بالمثال، وإلا فإن الآية أعم من هذا والله يقول: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [سورة النساء:103].
فالحاصل أن الله ذكر هذه الأحوال في الذكر، وذلك أن الذكر لا يكلف شيئاً، ولا يحتاج إلى أن يكون في حال معينة من قيام، أو قعود، أو استقبال للقبلة أو نحو هذا، وإنما يذكر الإنسان ربه - تبارك وتعالى - في كل الحالات، ولهذا لا يكاد يُذكر الذكر في القرآن حينما يؤمر به، أو يثنى على أهله؛ إلا مقروناً بالكثرة قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۝ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الأحزاب:41-42] وقال تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [سورة الأحزاب:35] فالذكر ليس كالصلاة، أو الصيام، أو الحج أو نحو هذا وإنما هو شيء لا يتطلب كلفة زائدة، فالإنسان على فراشه يذكر الله ، وكذلك يذكره وهو يمشي، وهكذا في كل الأحوال.
"وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة آل عمران:191] أي: يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالق، وقدرته، وعلمه، واختياره، ورحمته.
وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته، وصفاته، وشرعه، وقدره، وآياته فقال: وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ۝ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [سورة يوسف:105-106].
ومدح عباده المؤمنين الذين يذكرون الله قياماً، وقعوداً، وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض قائلين: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً [سورة آل عمران:191] أي ما خلقت هذا الخلق عبثاً بل بالحق".

قوله تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة آل عمران:191] الإشارة في قوله: مَا خَلَقْتَ هَذا هي إشارة للقريب - والأقرب والله أعلم - أن المقصود بها ما خلقت هذا الخلق، وهذا الذي مشى عليه ابن كثير هنا قال: "أي ما خلقت هذا الخلق عبثاً"، واختار هذا المعنى ابن جرير - رحمه الله - واحتج له بالدعاء بعده مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة آل عمران:191] أي: سبحانك أن تكون قد خلقت هذا الخلق من غير حكمة، وإنما خلقتهم لحكمة عظيمة، فتجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته إذا وافوا يوم القيامة، فالله خلقهم لأمر عظيم.
وقوله هنا في نفي الخلق أن يكون باطلاً: مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً نفي الباطلية كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله - أوغل في بيان المعنى المقصود، والدلالة عليه، وذلك أن هذا الخلق لحكمة عظيمة، فبيان هذه الحِكَم كما هي أمر يطول؛ لأن بيان الحكمة كلها أمر يطول، وصفه وبيان البعض من الحكم قد تقف عنده الأذهان، وتقتصر عليه وتغيب عما سواه، وتتوهم أن تلك هي الحكمة فحسب، لكن حينما يقال: مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً فنفي الباطلية يدل على أنه خلق لمعنىً عظيم، والله أعلم.
"أي ما خلقت هذا الخلق عبثاً، بل بالحق لتجزي الذين أساءوا بما عملوا، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى، ثم نزهوه عن العبث".

أي كما في قوله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [سورة ص:27] فهم الذين يظنون أن الله - تبارك وتعالى - خلقهما عبثاً وباطلاً.
"فقالوا: سُبْحَانَكَ أي: عن أن تخلق شيئاً باطلاً، فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أي: يا من خلق الخلق بالحق والعدل، يا من هو منزه عن النقائص، والعيب، والعبث؛ قنا من عذاب النار بحولك، وقوتك، وقيِّضنا لأعمال ترضى بها عنا، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم، وتجيرنا به من عذابك الأليم".
  1. أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة - باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب (1066) (ج 1 / ص 376).

مرات الإستماع: 0

"وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [آل عمران:190] ذُكر في البقرة.

قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191] أي: يذكرون الله على كل حال، فكأن هذه الهيآت حصرٌ لحال بني آدم، وقيل: إن ذلك في الصلاة، يُصلون قيامًا، فإن لم يستطيعوا صلوا قعودًا، فإن لم يستطيعوا صلوا على جنوبهم."

فقوله: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ قال: ذُكر في البقرة، مضى هناك أن ذلك اختلاف في التعاقب، وكذلك في الطول، والقصر، وما إلى ذلك.

قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ يعني على كل حال، يقول: فكأن هذه الهيآت حصرٌ لحال بني آدم، يعني أنه إما أن يكون كذا، أو كذا، أو كذا، فمعنى ذلك أنهم يذكرونه في كل حالاته.

وقيل: إن ذلك في الصلاة، يُصلون قيامًا، فإن لم يستطيعوا صلوا قعودًا، فإن لم يستطيعوا صلوا على جنوبهم كما في الصحيح من حديث عمران بن حصين : صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب[1] لكن المقصود بذلك عموم الذكر قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ وليس ذلك يختص بالصلاة، وربما كان القائل بذلك - أعني خصوص أحوال الصلاة - أنه أراد التفسير بالمثال.

يقول الحافظ ابن كثير: "أي لا يقطعون ذكره بجميع أحوالهم، بسرائرهم، وضمائرهم، وألسنتهم"[2] قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ فذكر الله - تبارك، وتعالى - هو أكمل حالاته ما تواطأ عليه القلب، واللسان، لا يكون الذكر على حالٍ أتم إذا كان بمجرد اللسان من غير مواطأة القلب، يعني إذا كان القلب غافلًا، ساهيًا، وذكر القلب معلوم، فإذا حصل معه ذكر اللسان مع استحضار القلب فهذا هو الأكمل، ولهذا قال ابن كثير - رحمه الله -: لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم، يعني بالقيام، والقعود، ويذكرونه دائمًا في كل الحالات، بسرائرهم، وضمائرهم، وألسنتهم.

"رَبَّنا [آل عمران:191] أي: يقولون: ربنا ما خلقت هذا لغير فائدة، بل خلقته، وخلقت البشر لينظروا فيه فيعرفوك فيعبدوك."

مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا حمله ابن جرير - رحمه الله -[3] وابن كثير[4] هَذَا: حملوه على الخلق عمومًا، وليس على خصوص السماوات، والأرض، واستدل ابن جرير له بالدعاء بعده رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۝ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ۝ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا يعني مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا يعني: الخلق بما فيه الناس، إنما خُلقوا لغايةٍ عُظمى، وهي عبادة الله وحده، هذا ما يتعلق بالدعاء بعده مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا ليس فقط السموات، والأرض، وإنما عموم الخلق.

لكن يُمكن أن يُفسّرها قوله - تبارك، وتعالى - في الآيات الأخرى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص:27] فذلك في خصوص السموات، والأرض، وهنا: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا فيكون ذلك في خصوص السموات، والأرض، وليس هذا أي الخلق عمومًا، بدليل الآية الأخرى فتكون مفسرةً له.

وما ذكره ابن جرير، وابن كثير يمكن أن يكون بدلالة الاقتضاء، يعني إذا كان ما خلق السموات، والأرض باطلًا، فذلك يقتضي أنه ما خلق من فيهما باطلًا، فهو مُنزهٌ عن الباطل، لكنهم ذكروا هذه الأجرام، والمخلوقات العظيمة، فما دونها من باب أولى - والله أعلم -.

ويقول: أي يقولون: ربنا ما خلقت هذا لغير فائدة مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا وذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - أن نفي الباطلية مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا أوغل في المعنى المقصود[5]؛ لأن بيان جميع الحكمة لا يفي به إفهام الخليقة، وبيان البعض يؤذن بتناهي الحكمة، فحينما قال: مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا يعني لحكمةٍ بالغةٍ عظيمة، فنفي الباطلية أوغل في المعنى المقصود، يعني أدل عليه، ليس به باطل إذن خلق ذلك لحِكَمٍ عظيمةٍ لا يُحيط بها إلا هو. 

  1.  - أخرجه البخاري، أبواب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب، برقم (1117).
  2.  - تفسير ابن كثير (2/184).
  3.  - تفسير الطبري (6/311).
  4.  - تفسير ابن كثير (2/18).
  5.  - انظر: مفتاح دار السعادة، ومنشور، ولاية العلم، والإرادة (2/85).