يقول الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أي: هذه في ارتفاعها، واتساعها، وهذه في انخفاضها، وكثافتها، واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات وثوابت، وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات، وزروع، وحيوان، ومعادن، ومنافع مختلفة الألوان، والروائح، والطعوم، والخواص.
وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أي: تعاقبهما، وتقارضهما الطول، والقصر، فتارة يطول هذا، ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيراً، ويقصر الذي كان طويلاً".
الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا جمع بين المعنيين، فبعض أهل العلم يقول: اختلاف الليل والنهار يعني التعاقب، هذا يأتي بعد هذا، وبعضهم يقول: هو ما يحصل من الطول والقصر، فالليل يأخذ من النهار كما هو الحال في الشتاء، والنهار يأخذ من الليل كما هو في الصيف، فكل ذلك - والله أعلم - داخل في قوله: وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فابن كثير - رحمه الله - جمع بين المعنيين.
ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران:191] كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين - ا - أن رسول الله ﷺ قال: صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب[1] أي لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم، وضمائرهم، وألسنتهم".
بعض أهل العلم يخصص هذا بالصلاة، ويحتج عليه بهذا الحديث، لكن المعنى أعم من هذا، وقد يكون ما ذكروه إنما هو من قبيل التفسير بالمثال، وإلا فإن الآية أعم من هذا والله يقول: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [سورة النساء:103].
فالحاصل أن الله ذكر هذه الأحوال في الذكر، وذلك أن الذكر لا يكلف شيئاً، ولا يحتاج إلى أن يكون في حال معينة من قيام، أو قعود، أو استقبال للقبلة أو نحو هذا، وإنما يذكر الإنسان ربه - تبارك وتعالى - في كل الحالات، ولهذا لا يكاد يُذكر الذكر في القرآن حينما يؤمر به، أو يثنى على أهله؛ إلا مقروناً بالكثرة قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الأحزاب:41-42] وقال تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [سورة الأحزاب:35] فالذكر ليس كالصلاة، أو الصيام، أو الحج أو نحو هذا وإنما هو شيء لا يتطلب كلفة زائدة، فالإنسان على فراشه يذكر الله ، وكذلك يذكره وهو يمشي، وهكذا في كل الأحوال.
وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته، وصفاته، وشرعه، وقدره، وآياته فقال: وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [سورة يوسف:105-106].
ومدح عباده المؤمنين الذين يذكرون الله قياماً، وقعوداً، وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض قائلين: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً [سورة آل عمران:191] أي ما خلقت هذا الخلق عبثاً بل بالحق".
قوله تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة آل عمران:191] الإشارة في قوله: مَا خَلَقْتَ هَذا هي إشارة للقريب - والأقرب والله أعلم - أن المقصود بها ما خلقت هذا الخلق، وهذا الذي مشى عليه ابن كثير هنا قال: "أي ما خلقت هذا الخلق عبثاً"، واختار هذا المعنى ابن جرير - رحمه الله - واحتج له بالدعاء بعده مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة آل عمران:191] أي: سبحانك أن تكون قد خلقت هذا الخلق من غير حكمة، وإنما خلقتهم لحكمة عظيمة، فتجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته إذا وافوا يوم القيامة، فالله خلقهم لأمر عظيم.
وقوله هنا في نفي الخلق أن يكون باطلاً: مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً نفي الباطلية كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله - أوغل في بيان المعنى المقصود، والدلالة عليه، وذلك أن هذا الخلق لحكمة عظيمة، فبيان هذه الحِكَم كما هي أمر يطول؛ لأن بيان الحكمة كلها أمر يطول، وصفه وبيان البعض من الحكم قد تقف عنده الأذهان، وتقتصر عليه وتغيب عما سواه، وتتوهم أن تلك هي الحكمة فحسب، لكن حينما يقال: مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً فنفي الباطلية يدل على أنه خلق لمعنىً عظيم، والله أعلم.
أي كما في قوله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [سورة ص:27] فهم الذين يظنون أن الله - تبارك وتعالى - خلقهما عبثاً وباطلاً.
- أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة - باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب (1066) (ج 1 / ص 376).