الخميس 17 / ذو القعدة / 1446 - 15 / مايو 2025
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ نَصِيبًا مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَٰبِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ۝ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ۝ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [سورة آل عمران:23 - 25].
"يقول تعالى منكراً على اليهود، والنصارى المتمسكين فيما يزعمون بكتابيْهم اللذين بأيديهم، وهما التوراة، والإنجيل، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما من اتباع محمد ﷺ تولوا، وهم معرضون عنهما، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم، والتنويه بذكرهم بالمخالفة، والعناد".

فقوله - تبارك، وتعالى - في هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ هذا الاستفهام يفيد معنى التعجب؛ وذلك أن هؤلاء الذين أعطاهم الله  كتاباً، كان الحري بهم أن يقبلوا التحاكم إليه.
قوله: أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ أي أُنزل عليهم كتاب من الله - تبارك، وتعالى -، وهؤلاء لم يبيّن الله طائفة مخصوصة من أهل الكتاب، فحمله كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - على اليهود، وذكر فيه واقعة معينة.
وعلى كل حال هذه الآية ليس فيها ما يدل على تخصيص اليهود، أو أن المراد بذلك هم اليهود، والنصارى معاً، فالآية تحتمل هذا، وهذا، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - حملها على الطائفتين، وإن كان لا يصح في سبب نزولها سبب معين في أنها نزلت في بعض اليهود حينما طالبهم النبي ﷺ بالرجوع إلى التوراة للتحاكم إليها في قضية من القضايا، أو أن ذلك في النصارى الذين وفدوا على النبي ﷺ من نجران، فطالبهم النبي ﷺ أن يتحاكم معهم إلى كتابهم، حيث ذكر فيه وصف النبي ﷺ، فالمقصود أنه إذا لم يصح فيها شيء محدد لا من هذا، ولا من هذا، فيقال: أخبر الله عن هؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، ويحتمل أن يكون طائفة من أهل الكتاب، وهم اليهود، ويحتمل أن يكون المراد اليهود، والنصارى، ويحتمل أن يكون المراد النصارى، فالمقصود أن ظاهر الآية يحتمل هذا جميعاً، وتخصيص طائفة من هؤلاء يحتاج إلى دليل.
والمقصود: أن الله يعجب نبيه ﷺ من صنيع هؤلاء الذين ناقضوا أنفسهم، فهم يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ، والكتاب هنا هو الكتاب المنزل عليهم، وهو التوراة، وذلك أن هؤلاء لا يؤمنون بالقرآن أصلاً، وإنما يؤمنون بكتابهم، ويعتقدون أنه من عند الله - تبارك، وتعالى -، ومع ذلك إذا دعوا إلى التحاكم إليه في أمر لا يوافق أهواءهم فإنهم يعرضون، ويأبون ذلك، - والله أعلم -.

مرات الإستماع: 0

"الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ [آل عمران:23] هم اليهود، والكتاب هنا التوراة، أو جنس".

هنا يقول: "هم اليهود" وابن كثير - رحمه الله - حمله على اليهود، والنصارى[1] إذا دعوا إلى التحاكم إلى ما في كتابهم من طاعة الله، واتباع النبي ﷺ أعرضوا، لكن التعليل المذكور بعد ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ هذه قال بها اليهود، زعموا أن دخولهم النار بقدر الأيام التي عبدوا فيها العجل، كانوا يقولون: نخرج منها، وتخلفوننا فيها، فهذه قرينة على أن المراد بذلك اليهود أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ هذا القدر يصدق على النصارى، ولكن القرينة، وتعليل هذا الإعراض بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ هذا يصدق على اليهود، فأحيانًا تكون الآية تحتمل، ولكن يوجد قرينة تدل على معنًى أخص، أو على أحد الاحتمالين، أو أحد القولين، فتُصرف إليه، يعني مثلًا في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ [المجادلة:8] فبعضهم يقول: هذه في المنافقين، وبعضهم يقول: هذه في اليهود، وبعضهم يعمم، ثم ذكر التعليل وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ فاليهود هم الذين كانوا يقولون هذا، فدل على أن المراد اليهود، وهكذا في مواضع من كتاب الله - تبارك، وتعالى -.

يقول: "اليهود، والكتاب هنا هو التوراة، أو الجنس" وهذا الذي اختاره ابن جرير أنه التوراة[2] وعلى قول ابن كثير: يدعون إلى كتابيهما التوراة، والإنجيل[3] أو جنس، يعني جنس الكتاب يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ يعني يدعون إلى الكتاب المنزل، الوحي، يتحاكموا إليه.

"يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ قال ابن عباس: دخل رسول الله ﷺ على جماعةٍ من اليهود فيهم: النعمان بن عمرو، والحارث بن زيد، فقالوا له: على أي دينٍ أنت؟ فقال لهم: على دين إبراهيم، فقالوا: إن إبراهيم كان يهودياً، فقال لهم رسول الله ﷺ: فهلموا إلى التوراة فهي بيننا، وبينكم، فأبوا عليه، فنزلت الآية".

هذا لا يصح في سبب النزول، مع أنه صريح "فنزلت الآية" لكنه من جهة الإسناد لا يصح، في إسناده محمد بن أبي محمد مجهول، وهو من رواية ابن إسحاق، ومخرج عند ابن جرير - رحمه الله[4] فلا يصح أن هذا هو سبب النزول.

"فكتاب الله على هذا التوراة، وقيل: هو القرآن، كان النبي ﷺ يدعوهم إليه فيعرضون عنه ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ الإشارة إلى إعراضهم عن كتاب الله، والباء سببية، والمعنى: أن كفرهم بسبب اغترارهم، وأكاذيبهم".

اغترارهم باعتبار أَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ أيامًا معدودات، جمع القلة، أي أيام قلائل، فهذا من الاغترار، بسبب اغترارهم، وأكاذيبهم، كذبهم على الله قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا [البقرة:80]. 

"والمعنى أن كفرهم بسبب اغترارهم، وأكاذيبهم".

كما قال الله : وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ فذكر الاغترار افتراء الكذب.

"والأيام المعدودات قد ذكرت في البقرة.
  1.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/28).
  2. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/295).
  3.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/28).
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/293).

مرات الإستماع: 0

ما زال السياق -أيها الأحبة- في صدر هذه السورة الكريمة (سورة آل عمران) في الكلام على أهل الكتاب، فالله -تبارك وتعالى- ذكر كفرهم وتكذيبهم، وفي هذه الآية يُعَجب -تبارك وتعالى- من توليهم وإعراضهم، حينما يدعون إلى كتاب الله؛ ليحكم بينهم، فيقول: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23].

فقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ هذا تعجيب من حالهم، والخطاب لنبيه ﷺ ويشمل أيضًا أتباعه، وأمته، يُعجبهم من حال هؤلاء الذين آتاهم الله حظًا من الكتاب.

يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ يحتمل أن يكون المراد بكتاب الله -تبارك وتعالى- هو الكتاب المُنزل عليهم، وهو التوراة، وهذا قال به بعض المفسرين، ويحتمل أن يكون المراد هو القرآن، ثم بعد ذلك يُعرض ويتولى فريق وطائفة منهم، وهم معرضون، يعني: هذه مُبالغة في التولي، فهو تولي مع إعراض، فالمتولي قد يرجع، ولكن إذا كان مُعرضًا فهذا لا سبيل إلى رجوعه.

فقوله -تبارك وتعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ هذا استفهام، والمقصود به التعجيب، وهو بمعنى التقرير؛ وذلك أن هؤلاء قد حصل منهم الإعراض والتولي على علم، فهو يوجب التعجب من صنيعهم وحالهم.

وقوله -تبارك وتعالى-: أَلَمْ تَرَ الرؤية هنا يمكن أن تكون رؤية علمية، بمعنى: ألم تعلم؟ ويحتمل أن تكون الرؤية بصرية، لا سيما أنها عُديت بـ(إلى) وأنهم معاصرون للنبي ﷺ.

ويُلاحظ هنا أنه جاء بالموصول الَّذِينَ ولم يقل: ألم تر إليهم، حيث يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون، وإنما قال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ فهذا فيه زيادة في المعنى بلا شك؛ وذلك أن هذا التولي والإعراض في غاية القُبح؛ لأنه صدر عن قوم أوتوا الكتاب فهم على علم، ولم يكن هذا التولي والإعراض عن جهل منهم، ولو قال: "ألم تر إليهم" فهذا لا يُنبأ بما هم عليه من العلم، وما بلغهم من الهدى، فالتولي يختلف بحسب حال المتولي، فإذا كان التولي عن علم، فلا شك أنه أشد وأقبح؛ وذلك أنه على قدر المقام يكون الملام، فتولي من علم وعرف ليس كتولي من لم يعرف، فلهذا جاءت هنا بهذا الاسم الموصول والصلة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ.

وبُني الفعل للمفعول أُوتُوا لأن المؤتي معروف، وهو الله -تبارك وتعالى-، لكنه لم يُضفه إليه، فيحتمل أن يكون ذلك لقُبح ما هم عليه، وأنهم لا يرفعوا بذلك رأسًا، ولم ينتفعوا به، فلم يُشرفهم بإضافة ذلك إليه.

والتنكير في قوله: نَصِيبًا يحتمل أن يكون للتعظيم، يعني عظيمًا من الكتاب، فيكون ذلك أقبح في حقهم، ويحتمل أن يكون التنكير هنا للتقليل، أُوتُوا نَصِيبًا أي: عندهم شيء من العلم، وإن قلّ، لكن لا شك أن الشناعة في الأول أعظم وأكبر، ولا شك أنهم كانوا على علم كبير دقيق بما جاء به أنبياؤهم، وما جاء به محمد ﷺ، ويعرفون صفته معرفة تفصيلية، وكانوا يتحدثون عن أوصافه قبل أن يُبعث، وكانوا يعرفون زمانه، ويعرفون مُهاجره؛ ولذلك الأوس والخزرج، وهم من قبائل اليمن، جاءوا إلى المدينة، إلى حرة سوداء، ليس فيها شيء، يسمعون من اليهود أن هذا مُهاجر نبي، ثم اليهود الذين جاءوا من بني النضير وقريظة ومن بني قينقاع، الطوائف الثلاث من اليهود حول المدينة، هؤلاء لم يكونوا من المدينة أصلاً، وإنما انتقلوا إليها ينتظرون مبعث هذا النبي، وكانوا في كلامهم يُقررون هذا، وأنه قد قرُب ويوشك أن يُبعث، فيعرفون المكان الذي سيُبعث فيه، وهم على انتظار، ويتوعدون هؤلاء المشركين من الأوس والخزرج في بعثه، كما ذكرنا في سورة البقرة، عند قوله: يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا[البقرة:89] يعني: هم يستنصرون بهذا النبي، وينتظرون بعثه؛ ليسحقوا هؤلاء المشركين من العرب، من الأوس والخزرج، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة:89] كما قال الله : يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] فلم يقل: كما يعرفون أنفسهم، فالإنسان لا يعرف نفسه حينما يولد، وإنما بعد مدة من النشأة، لكن يعرف ابنه منذ ولادته، فهو لا يُخطئه، ولا يلتبس مع غيره، يعرف أشباهه وأوصافه في غاية الدقة، فهذه المعرفة حينما تكون أكبر يكون الملام والمذمة أعظم.

وإذا كان هذا في حق اليهود -أيها الأحبة- فكذلك أيضًا فإن من عرف ليس كمن لم يعرف من هذه الأمة، ولهذا فإن أهل الإيمان إذا صدر عنهم ما لا يليق، كان ذلك شينًا في حقهم، وإذا صدر ذلك عن أحد من المنتسبين إلى العلم، أو إلى الدعوة، ونحو ذلك كان أقبح؛ لأنه كما قيل:

العيب فِي الْجَاهِل المغمور مغمور وعيب ذِي الشّرف الْمَذْكُور مَذْكُور
كفوفة الظفر تخفي من حقارتها وَمثلهَا فِي سَواد الْعين مَشْهُور[1].

هذا الشيء اليسير الحقير كفوفة الظفر إذا كانت في سواد العين تكون بادية ظاهرة مشهورة، كل من نظر إليه وهو لا يستطيع أن ينظر بصورة صحيحة، وخطأ العالم المشهور مشهور، فهذا يشتهر، والناس ينظرون إليه، وخطأ الجاهل المغمور مغمور، فلذلك ينظر الناس إلى العالم أو الداعية، أو من هو في موضع القدوة، إذا صدر منه أدنى شيء الناس أشاروا إليه بالأصابع، فيرون القذاة في عينه، ولا يرون الجذوع في أعينهم وأعين غيرهم من نظرائهم ومن يُشاكلهم من العامة، الذنب قبيح من الجميع، ولكن حينما يصدر عن علم، فهذ يكون أقبح وأشد؛ ولهذا كان شأن القدوات خطير، فيحتاج الإنسان أن يحترز، ويتقي الله فيما يأتي ويذر، ولو كان له وجهة نظر، قد يقول: أنا لي وجهة نظر، أنا أعتقد أن هذا ليس بمُحرم، والناس قد تلقوا ذلك من علمائهم والفتاوى المُقرة في بلادهم أن ذلك من المُنكرات والمحرمات، فلا حاجة هنا لأن ينفرد الإنسان برأي يكون فيه شاذًا، ويقول: هذا الذي أدين الله به، والناس بعد ذلك يُشيرون إليه بالأصابع، فبين ناقمٍ وشامت، وبين مقتدٍ به مغتر بفعله، أو مُتذرع بفعله؛ ليتوصل إلى مطلوبه من شهواته، فيكون ذلك فتنة للناس من الجهتين، ولا مصلحة في هذا، يعني: من جهة الحكمة والنظر إلى مآلات الأمور، والمصالح والمفاسد، فما الفائدة من أن يتكلم الإنسان بكلام، أو يصدر عنه بعض الأفعال والمزاولات مما يكون سببًا للبلبلة والفتنة، ثم يظهر أمام العالم ويقول: هذا الذي أدين الله به، احتفظ بهذا لنفسك، ثم مخالفة هذا السواد الأعظم، وزعزعة الناس في الثوابت التي نشأ الصغير عليها في قضية هي مُنكر، هب أنها من المُباح تُركت، هل تُرك شيء من دين الله ؟ تركها الناس وتركها خير من فعلها، فما الفائدة في مخالفة هؤلاء؟ وفي أشياء أيسر من هذا -أيها الأحبة- فيما بين الإنسان وبين الله، يتركها مع أن الناس لا يدرون عنه شيئًا في هذه القضايا، مسائل القصر والجمع، والجمهور يقولون: بأن الإنسان إذا كان ينوي الإقامة مدة محددة فهو كالمقيم، بعضهم يُحدد ذلك بأربعة أيام، قد يقول الإنسان بينه وبين ربه: بأنه يعتقد بأن الإنسان لا يزال مسافرًا حتى يرجع، وأن ظواهر الأدلة كلها تدل على عدم التحديد، لكن يبقى مخالفة الجمهور الأكثر سلفًا وخلفًا في قضية شرعية، كهذه الصلاة، فيحتاط لنفسه، ويُعامل نفسه معاملة المقيم، مع أن الناس لا يدرون عنه، فكيف في قضية مشهورة يرفع الناس إليه أبصارهم، وتكون حديث مجالس، ليست كقضية جمع وقصر، وأنا ذكرتها كمثال على ما لا يطلع عليه الناس، ومع ذلك يحتاط فيه الإنسان بينه وبين الله، لا يُخالف الجمهور الأكثر من أهل العلم في قضية يمكن أن يكون عن المخالفة مندوحة، فكيف بقضايا تكون حديث الألسن، وحديث المجالس، وسبب لفتنة كثيرين، فأين الفقه؟! لا سيما إذا كانت هذه القضايا أيضًا في أوقات ربما تدفع الناس في اتجاه الانحلال من الدين، فهذا يضرب بسهم ويقول: أنا أدين الله بهذا، وهذا يضرب بسهم آخر ويقول: أنا أدين الله بهذا، وهذا يضرب بسهم ثالث ويقول: أنا أدين الله بهذا، ويُزعزع الناس في ثوابت وقضايا بالنسبة إليهم مُسلمات، تلقوها بفتاوى علمائهم أن هذا لا يجوز، أو أن هذا من الواجبات، أو أن هذا من العمل المشروع، ثم يأتي من يشذ ويُخالف في ذلك، ويُعلن هذه المخالفة، فيقع بسبب ذلك شر كبير، ومن أعظم هذا الشر أن الناس يتشككون في قضايا هي بالنسبة إليهم مُسلمات، وهذا هو الخطير: أن العامة يُزعزعون في قضايا بالنسبة إليهم كانت ثوابت ومُسلمات، ثم بعد ذلك يُفيقون أن المسألة ليست كذلك، إذًا هذه ليست كذلك ربما أختها ليست كذلك، والثالثة ليست كذلك، والرابعة، فلا يبقى عند الناس يقين، فيكون الناس في حالة من التهيؤ لكل آسر وكاسر، ولكل من يُشككهم، ويُلبس عليهم دينهم، وإن كان الأول والثاني والثالث يدينون الله حقًا، وعلى نية طيبة، لكن بلا فقه، فمن ابتلي فليستتر، ولا داعي لإظهار مُنكراته في أعين الكثيرين، ويتبجح بها، ويصورها ويُذيعها ويُعلنها، وإذا نُوقش قال: هذا الذي أدين الله به، ومُستعد أن أُباهل على هذا، أو يُصدر فتاوى تُخالف الفتوى المعمول بها في البلد، وما تلقاه الناس، ثم يقول: هذا الذي أدين الله به، أين الفقه؟ ثم إذا نظرت إلى واقع الأمة والتشكيك في دينها وثوابتها وعقيدها وإيمانها، وانتشار الإلحاد، ثم نأتي ونقول: هذا الذي ندين الله به! هذا وقته؟! أبق الناس على ما تلقوا وعهدوا، وإن كان لك وجهة نظر فهذا هو النظر الصحيح، فنحتاج أن نتبصر، ونتعقل، ثم من زلة قدمه في هذه القضايا، ليس الحل هو الرشق من كل جانب، فنهدم ما بنينا، ونُخرب بيوتنا بأيدينا، إنما التواصل والتناصح بالتي هي أحسن، والكلام الذي يجذب النفوس، ويأسر القلوب، نصيحة مُحب ومُشفق، ونصيحة من يريد الخير لهذا المنصوح وللأمة، وليست كلام مُتشفٍ من بُعد، من وراء وراء، عبر هذه الوسائط والوسائل، ثم بعد ذلك تريد من هذا المنصوح أن يقبل منك، بل الغالب أنه يزداد بُعدًا، فيُبحر بعيدًا، حتى يتوارى عن الأنظار، ويتلقفه شياطين الإنس والجن، فهؤلاء كما كتب من قَبْلهم لكعب بن مالك : "قد علمنا بأن صاحبك قد جفاك، فالحق بنا نواسيك، ما جعلك الله في أرض مضيعة، الحق بنا نواسيك"[2] هناك شياطين على أتم الاستعداد لفعل مثل هذا، فإن بقي الناس يرشق بعضهم بعضًا، ويشتغل بعضهم بعضًا، وثبت هذا على ما هو عليه، فهم في غاية الفرح والسعادة والغِبطة، حيث اشتغل الناس ببعضهم، وصارت الأمة تتمزق، وتنشغل في هذا القضايا، والعدو يكتسح، وفي كل يوم يأخذ مواقع جديدة، وفي كل يوم يُمنى المسلمون بهزائم جديدة، ثم بعد ذلك نقول: أنى هذا؟ ومن أين أوتينا؟ أوتينا من قِبل أنفسنا. 

  1. البيتان لطاهر بن الحسين المخزومي في الدر الفريد وبيت القصيد (4/ 136).
  2. تاريخ الإسلام (2/ 656).
  3. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (4/ 304).

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23].

فيُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ أن الإنسان قد يؤتى شيئًا من العلم، ولكنه لا ينتفع به، فلا يوفق للعمل والاهتداء، فلا يكون زاكيًا صالحًا، عاملاً بما علم، وهذا لا شك أنه في حال بعيدة سيئة غير محمودة، وأن حال غيره ممن لم يعلم أفضل منه، ولكن ليس معنى ذلك أن يُترك التعلم لما يحتاج المؤمن إليه بحجة أنه قد يترك العمل، فإن الذي يعمل بلا علم يكون فيه شبه من النصارى، وهم أهل الضلال، والذي يعلم ولا يعمل فيه شبه من اليهود، وهم أهل الغضب، فالمؤمن دائمًا في كل ركعة يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] فيسلم من الضلال والغضب، يسلم من حال هؤلاء وهؤلاء، والصراط المستقيم لا يمكن أن يكون الإنسان سالكًا له، ومتحققًا من السير فيه ولزومه إلا إذا كان متصفًا بالعلم، فالله لا يُعبد إلا بما شرع، فلا بد من معرفة ما جاء به الشرع، وأن يكون عاملاً بمقتضى هذا العلم، مع الإخلاص، وإلا فالكفار قال الله تعالى عنهم: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وقال الله -تبارك وتعالى-: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88].

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ يتولون بعد هذه الدعوة التي قد عرفوا صحتها، فهنا كما يقول البقاعي -رحمه الله-: "ما أنكر مُنكرٌ حقًا وهو يعلمه، إلا سلبه الله تعالى علمه، حتى يصير إنكاره له بصورة ووصف من لم يكن قط علمه"[3] فهذه جزاء وفاقًا، عقوبة لهؤلاء.

ثم أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23] حيث عبر بالموصول الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا ولم يقل: ألم تر إلى اليهود مثلاً، حيث دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، فتولى فريق منهم، باعتبار أن العلم يكون موجبًا للانقياد لحكم الله -تبارك وتعالى-، والاستجابة والإذعان له، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51]، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ هذه واحدة، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ هذه الثانية، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] هذه الثالثة، فلا بد من هذه الثلاث، يعني: ليس فقط الانقياد، بل ارتفاع الحرج، والتسليم الكامل بلا جدال ولا معارضة ولا نقاش ولا تلكأ، وإنما هو الإذعان والاستسلام والرضا، بحيث لا يبقى في القلب حرج، ولا يبقى فيه شيء من الانقباض، أو التردد إطلاقًا، فهذا هو اللائق بأهل الإيمان، وقد نفى الله -تبارك وتعالى- الإيمان بهذا القسم فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65].

وبعض الناس يجد في قلبه أعظم الحرج من التحاكم إلى كتاب الله وشرعه، بل صار عند كثير من الخلق ممن ينتسبون إلى الإسلام في مثل هذه الأوقات ممن رباهم الاستعمار على عينه من الشناعة عندهم أن يدعو داعٍ إلى تحكيم شرع الله ، فهذه جريمة لا تُغتفر عند هؤلاء الخلق، جريمة أن يُطالب بتحكيم شرع الله في رقاب الناس، وأن يكون شرع الله  هو المُهيمن، وهو الحاكم والسائد بينهم، وصار كثير من الناس ربما يتوارى أو يستحيي من أن يتفوه بذلك؛ لئلا يُرمى بالعظائم، فهذه حال لا تتفق مع الإيمان أبدًا.

وقل مثل ذلك ممن يرغب عن شرع الله -تبارك وتعالى- وحكمه إلى أوضاع قانونية أرضية من صنع عقول وآراء البشر، مُخالفة لشرع الله ، فهذا لا يتفق مع الإيمان، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] فأين هذا من الشعارات الواسعة التي تُرفع في مشارق الأرض ومغاربها بالمطالبة بالديمقراطية، وحكم الشعب، وأن الشعب كما يُقال: هو المصدر الوحيد للتشريع والسُلطة، هذا مُناقض تمامًا لمثل هذا المعنى، والأصل العظيم الذي تُقرره هذه الآيات وغيرها، أن يكون الشعب هو مصدر السلطة، الشعب عبيد لله ، يحكم فيهم بما أراد، وليسوا هم مصدر التشريع والسلطة، والله -تبارك وتعالى- يقول: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] حتى هذا الاختيار الذي يختارونه بالأكثرية في تلك المجالس التي يُسمونها مجالس تشريعية في تلك النُظم التي يسمونها ديمقراطية لا يكون تحكيمًا لشرع الله، ولو كان موافقًا له؛ لأنه حكم بنص القانون، وهو حكم برأي وتصويت الأغلبية والأكثرية، فهو حكم برأي الشعب، ومن يُمثلونهم في تلك المجالس، فيكون ذلك من قبيل الحكم بأهواء الناس، وليس من الحكم بشرع الله في شيء، ولو كان موافقًا له، وإنما الصحيح أن يكون المشرع ابتداء هو الله، وأنه لا تشريع إلا من قِبله ، وما على الخلق إلا التسليم والانقياد والإذعان، وإذا صدرت هذه المُطالبات عمن ينتسبون إلى علم أو دين أو دعوة ونحو ذلك، فهذا يكون أشد وأعظم.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لم يقل: يدعون إلى كتابهم على القول بأن المقصود التوراة، ولم يقل: يدعون إلى القرآن، وإنما أضافه إليه إِلَى كِتَابِ اللَّهِ فهذه فيه معاني عظيمة: منها: أن إضافته إلى الله -تبارك وتعالى- تقتضي الانقياد والتسليم والإذعان المطلق، فالله هو المألوه المعبود وحده دون ما سواه، وأيضًا فإن إضافته إلى الله، وإظهار اسم الجلالة هنا: يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لا شك أنه فيه ما فيه من تربية المهابة في النفوس، فهذا هو الله، فيكون ذلك أعظم وقعًا، فأضاف الكتاب إليه، بخلاف ما لو قال: يدعون إلى التوراة على القول بأن المقصود التوراة، مع أنها كلام الله، لكن هذا يُشعر بمعنى ثالث أيضًا: وهو أن كتاب الله الذي هو كتابه دون أن يدخله التحريف، أما الكتاب الذي في أيديهم فقد دخله ما دخله من التحريف، لكن حينما يُضاف ذلك إليه فهم يدعون إلى كلامه الحق، وكتابه من غير تبديل.

وفي قوله: لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ حُذف المُتعلق، وقد ذكرنا القاعدة في هذا مرارًا، وهي أن حذف المُتعلق يفيد العموم النسبي، يعني المُناسب في كل مقام، ويُدْعَوْنَ بُني للمجهول؛ ليشمل دعاء الرسول ﷺ، ودعاء المؤمنين إذا دعوهم إلى كتاب الله ليحكم بينهم، فأُبْهم وبُني للمجهول ليشمل كل داعٍ.

وفي قوله: لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ في ماذا؟ حُذف المتعلق، وحذف المُتعلق يفيد العموم، يعني: لم يقل: يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم في العبادات التي اختلفوا فيها مثلاً، أو ليحكم بينهم في المعاملات والبيع والشراء، أو يحكم بينهم في الدماء، أو نحو ذلك، وإنما أطلقه هكذا بحذف المُتعلق، مما يدل على أن ذلك مُطلق، فكتاب الله -تبارك وتعالى- يحكم بين الناس في جميع الشؤون، يعني في أمور العبادات، وكيف يعبدون ربهم؟ يتلقون ذلك من الشارع، فإذا اختلفوا في شيء فحكمه إلى الله، وكذلك أيضًا في معاملاتهم، فالذي يحكم المعاملات هو الشرع، سواء كانت هذه المعاملات من المعاملات المالية والاقتصاد، أو كان ذلك فيما يتعلق بالخصومات في أمور شتى، أو كان ذلك فيما يتعلق بالمطعومات، أو كان ذلك في باب الأخلاق، فكل هذا يحكم فيه شرع الله -تبارك وتعالى-، فشرع الله ما ترك شيئًا، انظر إلى صفات عباد الرحمن، فأول صفة: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63] أول صفة في المشي، وفي سورة الإسراء وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [لقمان:18] فاعتنى بالمشية، وطريقة المشية، وكيف يمشي الإنسان؟ فعلمنا كيف نمشي، وعلمنا كل شيء، وكيف نعبده ، ونتقرب إليه، وكيف تكون علاقتنا بالرب المعبود ؟ وكيف تكون العلاقة بالخلق؟ وكيف يكون الإنسان مع نفسه؟ فهذه كلها يُنظمها الشرع، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] فهو ليس بحاجة إلى تكميل، فقد اكتمل قبل قبض النبي ﷺ، وما مات ﷺ حتى كمل الله الرسالة، فلا تحتاج إلى تكميل.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ لم يذكر ذلك في الجميع، وإنما في بعضهم، فيحتمل هذا أنه باعتبار أن الفريق الذي يتولى هو الذي يعتقد أن الحكم لن يكون في صالحه؛ ولهذا قيل: من يلي أمور العدل بين الناس من القضاة ونحوهم، يكون نصف الناس لهم أعداء أو خصوم؛ لأنهم لا يرضون بحكم الحق غالبًا، فقد يكون هذا هو المقصود بالفريق الآخر، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي: الذي يكون الحكم عليه، أو يعتقد أن الحكم لن يكون في صالحه، مع أن حكم الشرع في صالح الجميع؛ لأنه العدل، لكن هؤلاء لا يفقهون، لكن إذا كان لهم الحق جاءوا طواعية بإذعان، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور:49].

ويحتمل أن يكون معنى: يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ باعتبار أن من أهل الكتاب من قبل الحق، وآمن، كعبد الله بن سلام .

وأيضًا الجمع بين التولي والإعراض يدل على غاية في الإعراض، وأن هذا التولي لا يُرجى معه رجوع، يتولى وهو مُعرض، يعني قد يتولى الإنسان، ثم يكون له رجعة، لكن يتولى وهو مُعرض هذا لا سبيل إلى رجوعه.

وأيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ تعبير بـ(ثم) هذا للتراخي الرُتبي، يعني: ليس للترتيب في الزمان، يعني: كيف يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، وفوق ذلك يحصل نتيجة لذلك هذا الإعراض والتولي؟!

وهكذا التعبير بالمضارع يَتَوَلَّى لأنه -والله أعلم- يتكرر منهم حينًا بعد حين، فهذه عادتهم وديدنهم، وأما الإعراض فهو إعراض تام فعُبر عنه بالاسم مُعْرِضُونَ لأن قلوبهم قد سُدت وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت:5] وقال اليهود: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] عليها أغلفة لا يصل إليها ما تدعو إليه، فهم معرضون دائمًا، لكن التولي إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، فهذه حالة توجب التعجب كيف يكون هذا ممن أوتوا نصيبًا من الكتاب؟! وإذا كان هذا في أهل الكتاب فهو في حق هذه الأمة أشد؛ لأن الكتاب الذي أُنزل على هذه الأمة أشرف وأعظم، والنبي الذي أُرسل إليها أشرف وأعظم.

وكذلك أيضًا هذه الأمة أشرف، فالقبيح من أولئك لا شك أنه قبيح من هذه الأمة بل أقبح، والله -تبارك وتعالى- إنما ذكر لنا ذلك من أجل أن نتوقى الوقوع فيه، فلا نقع في مُشابهة هؤلاء. 

  1. البيتان لطاهر بن الحسين المخزومي في الدر الفريد وبيت القصيد (4/ 136).
  2. تاريخ الإسلام (2/ 656).
  3. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (4/ 304).