الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى لرسوله ﷺ بعدما أطلعه على جلية الأمر: ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ [سورة آل عمران:44] أي: نقصُّه عليك، وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [سورة آل عمران:44] أي: ما كنت عندهم يا محمد فتخبرهم عن معاينة عما جرى، بل أطلعك الله على ذلك، كأنك كنت حاضراً، وشاهداً لما كان من أمرهم حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها، وذلك لرغبتهم في الأجر.
روى ابن جرير عن عكرمة قال: ثم خرجتْ بها - يعني أم مريم بمريم - تحملها في خرقها إلى بني الكاهن ابن هارون أخي موسى - عليهما السلام - قال: وهم يومئذ يلون في بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فإني حررتها، وهي ابنتي، ولا تدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردها إلي بيتي، فقالوا: هذه ابنة إمامنا - وكان عمران يؤمهم في الصلاة -، وصاحب قرباننا، فقال زكريا: ادفعوها إليّ فإن خالتها تحتي، فقالوا: لا تطيب أنفسنا هي ابنة إمامنا، فذلك حين اقترعوا بأقلامهم عليها التي يكتبون بها التوراة، فقرعهم زكريا فكفَّلها.
وقد ذكر عكرمة أيضاً، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس، وغير واحد، دخل حديث بعضهم في بعض: أنهم دخلوا إلى نهر الأردن، واقترعوا هناك على أن يلقوا أقلامهم، فأيهم يثبت في جرية الماء فهو كافلها، فألقوا أقلامهم فاحتملها الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت، ويقال: إنه ذهب صاعداً يشق جرية الماء، وكان مع ذلك كبيرهم، وسيدهم، وعالمهم، وإمامهم، ونبيهم صلوات الله، وسلامه عليه، وعلى سائر النبيين".

فهذا الأثر الذي ذكره عن عكرمة، وفيه: أنها جاءت بها تحملها في خرقة، أو في خرقها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى - عليهما السلام - إلى آخره، إذا كان المراد بذلك أنهم ينتسبون إلى هارون بحيث يكون جداً بعيداً لهم فهذا يمكن أن يكون، وأما إذا كان المراد ببني الكاهن بن هارون، أنهم أبناء هذا الرجل مباشرة، وجدّهم هارون فهذا فيه نظر؛ لأن بين موسى ﷺ، وهارون، وبين عيسى - عليه الصلاة، والسلام - مدة طويلة من الزمن كما هو معروف، ولذلك لما جاء المغيرة بن شعبة من نجران، وسأل النبي ﷺ عن شبهة وجهها إليه النصارى في نجران، قالوا: كيف يقول القرآن: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ [سورة مريم:28]، وبين هارون، وبين عيسى - عليه الصلاة، والسلام - أو مريم مدة طويلة في التاريخ، فأجابه النبي ﷺ: بأنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم، أي أن هذا رجل آخر اسمه هارون، وليس هو هارون بن عمران.
ومن أهل العلم من يقول: إن قوله تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ أي: يا نظيرته في الصلاح، والتقى، والعفاف، والطهر، والنزاهة.
لكن ما جاء عن النبي ﷺ أولى بل هو الأحق، بل هو الواجب أن يتبع في تفسير الآية، أي أن هارون هذا شخص آخر.
وهذا الأثر أصلاً هو من الإسرائيليات، ومن المحتمل أن يكون هارون جداً من أجداد بني الكاهن، وإن لم يكن قريباً، ويحتمل أن يكون هو مباشرة.
وقوله: إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ [سورة آل عمران:44]، ذكر هنا أنها الأقلام التي يكتبون بها التوراة، وبعضهم يقول: إنها القداح، يعني أنهم يقترعون على كل حال سواء بهذا، أو بهذا، والمشهور الذي عليه عامة المفسرين أنهم ألقوا أقلامهم أي: الأقلام المعروفة، وليست القداح، والمشهور المتبادر من إطلاق الأقلام أنها الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة، وقد جاء في بعض الآثار - وهي أيضاً من الإسرائيليات - أنهم كانوا يكتبون التوراة، فجاءت امرأة عمران بمريم، فحصل بينهم هذا الاقتراع بهذه الأقلام التي كانت بأيديهم، فهذا هو قول عامة أهل العلم، بل إن الحافظ ابن القيم - رحمه الله - نقل عليه الاتفاق، لكن من أهل العلم من قال بغير هذا - والله أعلم -.
قوله: "فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فإني حررتها، وهي ابنتي"، يبدو أن فيها تصحيفاً؛ ذلك أن الموافق للمقام، والسياق أن تكون "وهي أنثى"، وليس ابنتي، ومثل هذا يتصحف بسهولة، فإن رسمه واحد، فالمقصود أن ذكْر الأنثى هنا هو المناسب؛ لأنها ذكرت بعد ذلك ما يمنعها من دخول المسجد، وهي أنها أنثى، لكن إذا قالت: وهي ابنتي، فلا فائدة من هذا، - والله أعلم -.

مرات الإستماع: 0

"ذَلِكَ إشارةٌ إلى ما تقدم من القصص، وهو خطابٌ للنبي ﷺ".

ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ يعني ما تقدم من ذكر خبر امرأة عمران، وما نذرت، وكذلك زكريا، وما دعا، وما وقع لمريم وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ فذلك كله وحي من الله .

"وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ احتجاجٌ على نبوءته ﷺ لكونه أخبر بهذه الأخبار، وهو لم يحضر معهم".

وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ يعني هو الاحتمال من أين؟ إما: أن يكون قرأ في كتبهم، ومعلومٌ أنه لا يقرأ، طيب ما الذي بقي؟ أنه حضر، وشاهد، وهذه قضية مُتَفق على أنها لم تقع، لم يدعيها النبي ﷺ وهم يعلمون أن ذلك لم يتحقق إطلاقًا، لكنه نفاه مع أنه غير واقع أصلًا، ولم يقل بذلك أحد، لكنه نفاه.

وبعضهم يقول: على سبيل التهكم بهم، يقول: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ يعرفون أنه ما كان لديهم، فبقي أنه وحي من الله، إذا كنت لم تقرأ هذا في كتب، وما كنت حاضرًا، بقي أن ذلك، وحي.

ويحتمل أن يكون ذلك من باب إظهار المنة على النبي ﷺ والإشارة إلى المعجزة أيضًا، حيث يخبرهم عن تفاصيل تتعلق بأنبيائهم، وهم يجاورونه في المدينة، وفيهم علماء، وأحبار، وكتبهم بين أيديهم، ويتحدث عن أدق التفاصيل لهذا القصص، والأخبار، فيما قيل، وما أُجيب، وكيف حصل هذا، وكيف وقع في قضايا كثُر فيها ضلالهم، وانحرافهم، وكذبهم، وفي خبر مريم، واليهود، والنصارى، وفي تأليهها، ورميها بالعظائم، وزكريا، ويحيى، وهكذا أخبار كبير أنبياء بني إسرائيل موسى - عليه الصلاة، السلام - في سياقات طويلة في القرآن، واليهود يجاورونه، فيأتي بهذه التفاصيل الدقيقة، ولا يستطيع أحدٌ منهم أن ينهض بمعارضةٍ، أو تكذيب.

وكما سيأتي أيضًا في قوله: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [آل عمران:93] حيث جاء النبي ﷺ عصبة من هؤلاء، فسألوه عن أشياء، فقالوا: لا يعلمها إلا نبي، ومن ذلك: ما الذي حرمه إسرائيل على نفسه؟ فأجابهم: بأنه حرَّم على نفسه لُحْمَانُ الإبل، وألبانها، وكان أحب الطعام، والشراب إليه، وذلك لما أصابه داء شديد، وجاء مُفَسرًا في الرواية الأخرى من حديث ابن عباس - ا - أنه عرق النَّسا[1] وهو ألم شديد، وعرق من المفصل، والورك، ينزل إلى الفخذ، ولربما يصل إلى الكعب، وبعضهم يقول: قيل له: عرق النَّسا؛ لأنه يُنسي ما عداه من شدة الألم، فهذه أخبرهم بها النبي ﷺ وهم يسألون على سبيل التحدي، ما الذي حرَّمه إسرائيل جدهم يعقوب - عليه الصلاة، السلام - الذين يُنسبون إليه يا بني إسرائيل؟ فيخبرهم ما الذي حرَّمه، فيقولون: صدقت، صدقت.

"يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أي: أزلامهم، وهي قداحهم، وقيل: الأقلامُ التي كانوا يكتبون بها التوراة، اقترعوا بها على كفالة مريم، حرصًا عليها، وتنافسًا في كفالتها، وتدل الآيةُ على جواز القُرعة، وقد ثبتت أيضًا من السنة".

يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أي: أزلامهم، وهي قداحهم، القداح التي تُستخرج للقُرعة، والقُرعة - كما هو معلوم - تكون في الحقوق المتساوية، كل واحد يريد أن يكفل مريم، فأجروا قُرعةً فيما بينهم، وظاهر القرآن أن المقصود بالأقلام: هي الأقلام التي يكتبون بها التوراة، ونحو ذلك، فكانوا يقترعون بها، وقد نقل الحافظ ابن القيم - رحمه الله - اتفاق العلماء على أن المراد بالأقلام هي "الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة"[2] وهذا هو الظاهر المتبادر، لكنه قد يُستعمل بمعنًى أوسع على ما يُقترع به؛ ولهذا ذكر هنا بعضهم القداح، والأزلام، لكن حمله على ظاهره أولى، لا سيما مع نقل الاتفاق على هذا المعنى، فالأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة، كانوا يقترعون بها، قُرعة كل واحد يلقي قلمه فمن خرج له ذلك السهم كانت في سهمه، فكانت لزكريا.

"وتدل الآية على جواز القُرعة" وهذا لا إشكال فيه، والسنة تدل عليه، وذكر عندكم في الهامش حديث عائشة - ا -: "كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين أزواجه"[3] فيعمل قُرعة بينهن، وعلى كل حال القُرعة ثابتة لا إشكال في السنة، وهذا دليلٌ عليها من القرآن، وأيضًا فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141] في يونس لما ركب السفينة، وخرج مغاضبًا، فوقع السهم عليه، فأُلقي في البحر، فالتقمه الحوت.

"أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ مبتدأٌ، وخبرٌ في موضع نصبٍ بفعلٍ تقديره: "ينظرون أيهم".

وابن جرير - رحمه الله - يقول: ينظر أيهم يكفل؛ ليتبينوا ذلك، ويعلموه[4] يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ يعني: لينظروا أيهم يكفلُ مريم وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ والاختصام الظاهر أنه كان قبل الاقتراع، يعني وقع التنافس، والتشاح بينهم فيها، فكان الملجأ إلى القرعة لإنهاء هذا الخصام، لكنه أُخر في الذكر، كما في قوله - تبارك، وتعالى - في سورة البقرة: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72] هذا وقع قبل الأمر في قوله: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:73] وذكرنا لكم هناك قول بعض أهل العلم، كالشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - يقول: لو أنه ذكر في البداية قال: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ۝ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:72 - 73] وذكر قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]. . . إلخ، قال: لكان سياقًا واحدًا، لكن لما ذكر الأول، فهي آية في إحياء الله الموتى، ثم قال: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72] صار كأنها قضية ثانية في الاحتجاج على بني إسرائيل، ونحو ذلك، فصار أبلغ في المعنى، مع أنه كان في الوقوع قبل، حصل التدارئ، فأُمروا بذبح البقرة، وهنا وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ الاختصام وقع قبل القُرعة، فاقترعوا بناءً على ذلك؛ لماذا حصل هذا التأخير لذكر الخصام؟ بعضهم يقول: لمناسبة الفواصل وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ يعني رؤوس الآي، أو لأن الله ذكر النتيجة قبل المقدمة، يعني المقدمة هي الخصام، والنتيجة القُرعة، فكانت لزكريا، فذكر النتيجة قبل المقدمة، وقبل السبب؛ لأنها المقصودة، وهو أنها صارت في سهم زكريا، وصار كافلًا لها، وإنما الاختصام الذي وقع، وإلقاء الأقلام كله من أجل الكفالة، فكانت لزكريا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا فإلقاء الأقلام كان من أجل الكفالة فذكر هذا، ثم ذكر الخصومة، والواقع: أنها أُلقيت الأقلام بسبب الخصومة - والله أعلم -.

"يَخْتَصِمُونَ يختلفون فيمن يكفلها منهم." 
  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/580).
  2.  التفسير القيم = تفسير القرآن الكريم لابن القيم (ص:217).
  3.  أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضاً برقم: (2661).
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/405).

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- ما حبا الله به مريم من الاصطفاء والاجتباء، وما نادتها الملائكة به من ذلك بأمر الله -تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42]، وما قص الله -تبارك وتعالى- من خبر امرأة عمران في نذرها، وما جرى من زكريا ، إلى غير ذلك مما مضى في الآيات السابقة.

قال الله : ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44].

ذَلِكَ أي: الذي قصصناه عليك مما مضى من أخبار هؤلاء الكرام، وما جرى لهم؛ كل ذلك مما أوحاه الله إليك، وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، لم تكن حاضرًا حينما تنافسوا على كفالة مريم، وتشاحوا في ذلك، كل واحد منهم يريد أن يكون كافلًا لها، يقول: لم تكن شاهدًا ولا حاضرًا في ذلك الأثناء، يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أي القُرعة، قيل: الأقلام التي يكتبون بها اقترعوا بها، وقيل غير ذلك مما يحصل به الاقتراع، إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، فوقع ذلك لزكريا ، وصار كافلًا لها.

وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ، يختصمون في شأنها كل واحد يريد أن يكون هو الكافل لها.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من المعاني والهدايات والعِبر والعِظات: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ، فيه إثبات المعجزة للنبي ﷺ بنوع من الإعجاز معروف وهو الإخبار عن المغيبات، فإن النبي -صلوات الله وسلامه عليه- قد أوتي من الآيات البينات الساطعات الدالة على صدقه، أعظمها القرآن، وأعطي من الآيات غير ذلك، وقد تضمن هذا القرآن الإعجاز من ناحية فصاحته، وبلاغته، وبيانه، وأسلوبه المعُجز حيث تحداهم الله أن يأتوا بقرآن مثله، فأعياهم ذلك، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله، فأعياهم ذلك، ثم تحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة ولو أقصر سورة، فأعجزهم ذلك، فهذا ضرب من الإعجاز، وفي مضامين هذا القرآن إخبار عن المغيبات غيوب: الم ۝ غُلِبَتِ الرُّومُ ۝ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ۝ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:1-4]، حدد المدة التي سيحصل الغلبة فيها بين قوم هم ألداء في الخصومة يتربصون به ويكذبونه ويتهمونه بأنه يفتري على الله مع غاية الأنفة والكبر وشدة العداوة، ويُحدد لهم قضية لابد أن ينكشف فيها الحال بعد سُنيات فِي بِضْعِ سِنِينَ ثم بعد ذلك يتحقق كما ذكر، وأبو لهب المذكور في "تبت" قال الله: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3]، معناها أنه لن يؤمن فآمن كثير من الذين ناصبوا النبي ﷺ بالعداوة ولم يؤمن أبو لهب، وهكذا في أمثلة ونماذج كثير، ومن ذلك إخبار النبي ﷺ عن بعض الغيوب بأمر الله ووحيه في غير القرآن، فهذا كله من الإعجاز والآيات والبراهين، ولما قال النبي ﷺ عن ناقته التي ضلت في بعض مغازيه، وتكلم من تكلم من المنافقين وتهكموا كعادتهم يستغلون الفرص للوقيعة بالله وآياته ورسوله وكتابه والمؤمنين، قالوا: "يدعي أنه يأتيه خبر السماء ولا يدري أين ناقته، فأخبرهم النبي ﷺ جاءه الوحي أخبرهم أنها في موضع كذا قد تعلق خطامها بشجرة، فذهبوا فوجدوها وأتوا بها"[1].

وهكذا -عليه الصلاة والسلام- أخبر عن غيوب متنوعة مما أطلعه الله عليه، فهنا هذه الغيوب التي يذكرها في سورة مدنية، وأهل الكتاب يجاورونه وفيهم الأحبار العلماء وبين أيديهم الكتب، ثم يأتي ويتحدث عن أدق التفاصيل المتعلقة بهؤلاء الأنبياء الكرام -عليهم صلوات الله وسلامه، تفاصيل دقيقة يذكرها ولا يستطيع أحد أن يرفع رأسه ويُكذب النبي ﷺ ويقول هذا لا وجود له، بل كانوا يتطفلون بالسؤال أحيانًا ويُخبرهم عن أمور لا يعلمونها، وتارة يسألونه عن أمور لا يعلمها إلا نبي فيُخبرهم، لما سألوا النبي ﷺ كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عند أحمد وغيره عن ما حرم إسرائيل على نفسه؟ يعني يعقوب ، "جاءت عصابة إلى النبي ﷺ فسألوه عن ما حرم على نفسه؟ فأخبرهم النبي ﷺ أنه أصابه مرض شديد والمقصود به عرق النسا، فنذر لله إن شفاه الله ليُحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحوم الإبل وألبانها: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [آل عمران:93][2].

وسيأتي الكلام على هذا -إن شاء الله، فهذا من الأمور التي أخبرهم عنها، وأقروا بها، قالوا: لا يعلمها إلا نبي، وأعلمهم بذلك، وهنا يُخبرهم عن هذه التفاصيل الدقيقة، فمن الذي أعلمه بذلك؟ هو لا يتحدث عن أشياء بعيدة عنهم، هو يتحدث عن قضايا تتعلق ببني إسرائيل، بأولاد يعقوب، ذرية يعقوب، ويتحدث عن يعقوب نفسه، وعن أولاده وعن كبير أنبيائهم موسى في سياق طويل كل هذا وهم حضور، ولا يستطيع أحد منهم أن يرفع رأسه مكذبًا لشيء جاء به النبي ﷺ.

فقوله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ، أخبار الغيب، والتعبير بنبأ "أنباء" جمع نبأ، والنبأ كما ذكرنا في بعض المناسبات لا يُقال إلا للخبر الذي له خطب وشأن، كما يقال: لا يُقال جاءنا نبأ حمار الحجام؛ لأنه لا شأن له، ولكن يقال: جاءنا نبأ الأمير، جاءنا نبأ الجيش، جاءنا نبأ الحرب، ونحو ذلك؛ لأن هذا له شأن، يُقال له: نبأ.

ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ هنا: نُوحِيهِ إِلَيْكَ بنون العظمة نُوحِيهِ يُعظم نفسه -تبارك وتعالى، والوحي معروف فهو ما يُلقيه الله إلى أنبياءه ورسله -عليهم الصلاة والسلام- سواء كان ذلك بواسطة الملك أو بغير واسطة وهو أنواع، منها القرآن وهذا يأتي بواسطة جبريل ، ومنه السنة فهي وحي من الله فقد يكون ذلك بواسطة جبريل ، وقد يكون إلهمًا من الله، وقد يكون الوحي بالنسبة للنبي ﷺ بالرؤيا فرؤيا الأنبياء حق، لكن هذا ليس من القرآن فيه شيء، القرآن كله في اليقظة بواسطة جبريل .

وقوله: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ الغيب كل ما غاب عن الحس بأنواعه الثلاثة التي ترجع إلى نوعين أو قسمين: الغيب المطلق، والغيب النسبي، الغيب المطلق هو غيب المستقبل، لا يعلم ما في الغد إلا الله، وأما الغيب النسبي فهو ما غاب عنك الآن لكن قد يعلمه غيرك، مثل الأمور التي كانت في الزمن الماضي قصص هؤلاء علمها من علمها لكنها غيب بالنسبة إلى غيرهم، وكذلك أيضًا ما يقع في اللحظة الحاضرة يعلمه من لابسه، ولكنه من غاب عنه فإنه لا بصر له ولا علم به.

ومن الطرائف في هذا ما يُذكر في خبر أحد من كانوا في بدايات القرن الهجري الماضي أول ما عرف الناس المذياع -الراديو- وكان زعيمًا يُظهر لأتباعه أنه ذو اطلاع ومعرفة بأمور يُخبرهم بها، فيعتقدون فيه ويخافون منه، فالشاهد أنه كان يجلس في عُلية غرفة ينفرد وعنده مذياع، وهم لا يعرفون المذياع، ثم يُخبرهم يقول حصل في البلد الفلاني حرب مات الزعيم الفلاني، حصل زلزال في البلد الفلانية، ويأتيهم الخبر بعد شهور كما قال، وفي اليوم الذي حدده عن طريق المذياع، فهذا غيب نسبي بالنسبة إليهم، ولم يكن غيبًا بالنسبة إليه، هو أو من حضر ذلك أو شاهده أو لابسه أو عرفه، فنحن ما يجري خلف هذا الجدار -جدار المسجد- غيب بالنسبة إلينا من الذي يمشي في هذا المكان، ما الذي يحدث؟ لا نعلم، فهو غيب، فهذا من الغيب النسبي، لكن من كان خلف هذا الجدار يسمع ويرى فإنه لا يكون غيبًا بالنسبة إليه فهو يشاهده.

ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وهنا: نُوحِيهِ إِلَيْكَ هذا فيه تخصيص للنبي ﷺ؛ لأن الوحي يأتي إليه خاصة وليس يأتي لأمته فهو مُبلغ عن الله -تبارك وتعالى، وهذه الأمور إنما أوحى الله بها إليه: نُوحِيهِ إِلَيْكَ.

وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ فهم منه بعض أهل العلم أن كتبهم لم يكن ذلك مذكورًا فيها، يقولون ولهذا لم يقل وما كنت تتلوا كتبهم حتى تطلع على ما فيها، وإنما قال: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ، يعني: حين يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ حين ألقوا أقلامهم، إِذْ يُلْقُونَ وعبر بالفعل المضارع مع أن القضية في الزمن الماضي: إِذْ يُلْقُونَ ما قال إذ ألقوا أقلامهم مقترعين، وإنما قال: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ وذكرنا في بعض المناسبات إن التعبير بالمضارع عن شيء مضى هذا فيه فائدة، وهو أنه يصور لك الحدث الماضي كأنك تشاهده، كأنك تعيش أمام المشهد، كأنه يُعيد المشهد من جديد: إِذْ يُلْقُونَ وذكرنا نظائر لهذا في أمثلة متعددة مضت عبر فيها بالماضي عن أفعال لهم وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61]، فعبر بـ "يقتلون" مع أنهم قتلوهم، وذكرنا ملحظًا فيه أن ذلك فيه إشارة إلى استمرار ذلك حيث وضعوا السم للنبي ﷺ.

قال: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ لاحظ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ الآن هذا التعبير: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ وما كنت حاضرًا لديهم، هم يعلمون أنه لم يكن حاضرًا لديهم، بقي أن يكون قد قرأ ذلك في كتبهم، وهم يعلمون أنه لا يقرأ ولا يكتب، وكما سبق أن من أهل العلم من يقول: هذا أصلًا غير موجود في كتبهم، إذًا ما الذي بقي؟ أنه وحي من الله، يعني: كأنه يقول له أنت ما كنت موجودًا معهم حينما فعلوا ذلك واقترعوا، إذًا من أين جاء الخبر يا قوم؟ جاء من الله بالوحي، يعني العلماء يقولون: إنه ذكر ذلك على سبيل التهكم بهم؛ لأنه نفى أمرًا متفقًا عليه، هم يعلمون أنه لم يكن موجودًا فما الحاجة لنفيه وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ.

وفيه أيضًا معنى آخر: وهو الامتنان على النبي ﷺ بالوحي: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ.

وفيه أيضًا جواز القُرعة، والقاعدة في القُرعة أنها فيما استوت فيه الحقوق، يعني: مثلًا النبي ﷺ لما ذكر الأذان ثم لم يجد الناس إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، هذا إذا لم يكن للمسجد مؤذن راتب، ناس خرجوا في برية خرجوا في مكان دخلوا مسجد ليس له مؤذن فهنا من الأحق بالأذان؟ يستوون.

إذًا إذا استوت الحقوق ماذا يفعلون؟ القرعة، وهكذا ما وقع ليونس حينما ركب السفينة، وخرج مُغاضبًا، اقترع أهل السفينة لما أوشكت على الغرق، فكان السهم يخرج عليه حتى أُلقي في البحر، فالقرعة تكون في الأمور التي تسوي فيها الحقوق، تنازع مثلًا الأعمام في مولية لهم في بنت لأخيهم الذي توفي مثلًا من يكفل هذه البنت، يُعمل لهم قرعة، تنازعت الخالات الخالة بمنزلة الأم والعم بمنزلة الأب، تنازعت الخالات تُعطى لمن؟ للكُبرى أو للصغرى أو للوسطى؟ فالقرعة في هذه الحال: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ.

وهنا التنافس في الكفالة، كفالة مريم -رحمها الله، فهذا يؤخذ منه أن المجتمعات الصالحة والبيئات الخيرة تتنافس على أمور الخير من كفالة من يحتاج إلى كفالة، سواء كان ذلك من الأيتام أو الأرامل، أو كان ذلك من كفالة طلاب العلم، أو غير ذلك، يحصل المنافسة بحيث إنه لا يمكن الفصل بينهم إلا بقرعة فالواحد يقول أنا أحق، تعلمون أن الأنصار ما كان أحد من المهاجرين يأتي إلى المدينة وينزل على أحد من الأنصار إلا بقرعة، يتنازعون، كل واحد يقول: عندي أنا، لا يريدون الخلاص منه، لا، يتنافسون فيُقرع النبي ﷺ بينهم فمن كانت له القرعة ذهب معه، وهذه شهادة شهد الله لهم بها يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً، يعني: الحسد، مِمَّا أُوتُوا، يعني: مما أعطي للمهاجرين دون الأنصار.

وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، هذه شهادة عظيمة لهؤلاء، فالمقصود أن التزاحم على أعمال البر والخير حتى لا يُفصل بين هؤلاء إلا بقُرعة هذا يدل على مجتمع نظيف وسليم، وأنه على فطرة صحيحة، وأما إذا أُحضرت الأنفس الشُح وصار الناس يستثقلون ويتبرمون بإخوانهم فإن ذلك مؤذن بحال غير مرضية، -والله تعالى أعلم. 

  1. انظر: الدرر في اختصار المغازي والسير (ص: 240-241).
  2. أخرجه أحمد في المسند، برقم (20975)، وقال محققوه: "صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن من أجل جعفر بن أبي ثور. عمرو الناقد: هو ابن محمد بن بكير".