وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [سورة الروم:58-60].
يقول تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي: قد بينا لهم الحق، ووضحناه لهم، وضربنا لهم فيه الأمثال ليتبينوا الحق ويتبعوه.
وهذا يكون من قصص الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وقصص الأمم، وكل ما يحصل فيه عبرة، ويدخل في ذلك على المشهور في الأمثال بأنها ما يكون فيه تقريب المعنى بصورة محسوسة، هذا كله داخل في الأمثال، فضرب الله ونوَّع وجعل هذا القرآن مثاني تثنى فيه العبر والعظات والقصص والأمثال والأخبار، كل ذلك من أجل أن يحصل الاتعاظ والاعتبار، فكل ما يحصل به العظة والعبرة على هذا الاعتبار يكون من قبيل المثل، والله تعالى أعلم.
هذا أصل كبير وهو أن من طبع الله على قلبه فإن اتباعه للحق وإذعانه له لا يتوقف على وجود آية، والقرآن قد كثر فيه ورود هذا المعنى وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ، والله يقول: وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [سورة الإسراء:59] آية بينة مبصرة فَظَلَمُواْ بِهَا ولم تنفعهم هذه الآيات، ومن أراد الله شقاوته فإنه لا يملك له أحد من الله - تبارك وتعالى - شيئا، ولا يستطيع هدايته، ومن ثَمّ فإن المؤمن عندها لا تذهب نفسه على هؤلاء حسرات، وكذلك فإنّ كفر هؤلاء ودعواهم الباطلة ورميهم أهل الإيمان والحق بالأوصاف القبيحة المذمومة فإن ذلك لا ينبغي أن يزحزح أهل الإيمان عن حقهم، أو أن يتنازلوا عن شيء منه، أو يميلوا إلى هؤلاء الذين طبع الله على قلوبهم وأعمى أبصارهم، وأصمهم، فلا يكون منهم أدنى التفات إليهم ولا يحفلوا بهم، ولا يكون ذلك سبباً لمداهنتهم وطلب رضاهم والسعي إلى التقارب معهم أو نحو ذلك، فالله - تبارك وتعالى - يقول: فَاصْبِرْ يعني على الحق الذي أنزله الله إليك، اثبت عليه، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وعد الله حق بجزاء أهل الإيمان، وأخذ هؤلاء المجرمين في الدنيا والآخرة، فالغاية بالنسبة لأهل الإيمان هي الجنة مع حسن العاقبة في الدنيا، وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ، لا تغير موقفك ولا تدهن مع هؤلاء، فهؤلاء لا يقين لهم، أما أهل الإيمان فهم أهل اليقين، ومن كان من أهل اليقين فإنه يكون واثقاً بمبدئه، وما هو عليه من الدين، فلا يتشكك ولا يتردد ولا يحصل له اضطراب في سيره إلى الله - تبارك وتعالى - ودعوته، ومثل هذا لو أن الناس اعتبروا به في مثل هذه الأيام - وهم أحوج ما يكونون إليه - لسلموا من شر كثير، ولما حصل مثل ما نشاهد من تراجع أهل الصلاح والدعاة إلى الله والتلون والتقلب كل ذلك لربما من أجل جذب الذين لا يوقنون إلى دعوتهم، وكل ذلك من أجل تقريبهم أو مقاربتهم والتوصل معهم إلى حال يلتقون فيها معهم في وسط الطريق فيبقى الإنسان على دين وحال لربما يكون بين الإيمان والنفاق، فمثل هذا ينبغي للإنسان أن يحذره، والقرآن مليء بمثل هذه الأصول الكبار، ولهذا فإن الله - تبارك وتعالى - ضرب فيه للناس من كل مثل، حينما يقرأ المرء أو يسمع كلام الله لا يجد شيئا أبلغ مما قال الله في وصف هذا الكتاب بأنه تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [سورة النحل:89]، وأنه يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [سورة الإسراء:9]، وأنه مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [سورة الزمر:23]، وأنه هدْى كامل في كل ما يحتاج الناس إليه، والله المستعان.
روى الإمام أحمد عن رجل من أصحاب النبي ﷺ، أن رسول الله ﷺ صلى بهم الصبح، فقرأ فيها الرّوم فأوهم، فقال: إنه يَلبِس علينا القرآن، فإن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء[1].
وهذا إسناد حسن، ومتن حسن، وفيه سر عجيب، ونبأ غريب، وهو أنه ﷺ تأثر بنقصان وضوء من ائتم به، فدل ذلك أن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام.
هذا صحيح ظاهر ومشاهد، فالإمام يتأثر بحال المأمومين خلفه، والله المستعان.
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (15874)، وقال محققوه: "حديث حسن، وهذا إسناد ضعيف لإرساله".