الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة لقمان:1-5].
يقول الإمام الحافظ ابن كثير: تقدم في أول سورة "البقرة" عامة الكلام على ما يتعلق بصدر هذه السورة، وهو أنه جعل هذا القرآن هدى وشفاء ورحمة للمحسنين، وهم الذين أحسنوا العمل في اتباع الشريعة، فأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وأوقاتها، وما يتبعها من نوافل راتبة وغير راتبة، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها، ووصلوا أرحامهم وقراباتهم، وأيقنوا بالجزاء في الدار الآخرة، فرغبوا إلى الله في ثواب ذلك، لم يراءوا به، ولا أرادوا جزاءً من الناس ولا شكوراً، فَمَنْ فعل ذلك كذلك فهو من الذين قال الله تعالى: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ أي: على بصيرة وبينة ومنهج واضح وجلي، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: في الدنيا والآخرة.
فقوله - تبارك وتعالى -: الم مضى كما سبق الكلام على ذلك في أول سورة البقرة، وحاصل ما ذكر أن هذه الحروف المقطعة لا معنى لها في نفسها، ولكنها تشير إلى معنى وهو أن هذا القرآن المعجز الذي تحداكم الله به مركب من هذه الحروف التي تركبون منها كلامكم، ولهذا يأتي غالباً بعد هذه الحروف المقطعة يأتي ذكر القرآن؛ إشارة إلى هذا المعنى - والله تعالى أعلم -، والكلام فيها كثير، ولا حاجة لإعادة ذلك.
وقوله: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أيضاً مضى نحوه، وأن الإشارة إما إلى الآيات التي تضمنتها هذه السورة، أو إلى آيات القرآن بعامة، وأن الله - تبارك وتعالى - سماه كتاباً، وحينما نزلت هذه السورة لم يكتب، وأن نزول بعض القرآن يكفي في هذا الإطلاق، كما قال الله في أول سورة البقرة: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2]، ومعلوم أن سورة البقرة هي من أوائل ما نزل في المدينة، يعني: لم يكتمل نزول القرآن، وهذه السورة من السور المكية، وأن الله - تبارك وتعالى - سماه كتاباً، إشارة إلى ما حصل بعد ذلك من كتابة القرآن؛ ولهذا قال من قال من أهل العلم: إن ذلك لا يعد من المصالح المرسلة، بل ورد ذلك منصوصاً في كتاب الله ، لأن المشهور أن العلماء يمثلون على المصالح المرسلة بكتابة المصاحف، فمن أهل العلم من يقول: إن ذلك في كتاب الله : ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ، فسماه كتاباً، وكما في هذه الآية، وأما الحكيم فإن هذه الزنة فعيل تأتي بمعنى فاعل، وتأتي بمعنى مُفعَل، يعني: أنه محكم، ولا شك أن القرآن محكم، وأنه حكيم، فهو غاية في الصواب في أحكامه وأخباره، والحكمة كما هو معلوم: الإصابة في القول والحكم والعمل، قال: هُدًى وَرَحْمَةً على هذه القراءة قراءة الجمهور هما حالان، يعني: حال كونها هدىً ورحمة، هذه الآيات هدىً ورحمة لمن أراد الله هدايته ورحمته بها، فذكر هنا أن المحسنين هم الذين تكون لهم هدى ورحمة، كما قال في سورة البقرة: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، وفسر المحسنين هنا بقوله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ إلى آخره، وهذه أيضاً صفات المتقين، ولهذا فإن من أهل العلم من يقول: إن المحسنين هنا هم العاملون بطاعة الله التاركون لمعصيته، يعني: فسر بالتقوى، وإن ذكر بعضهم احتمالاً أن المراد بذلك الإحسان الذي هو أن تعبد الله كأنك تراه، ولا شك أن من كان بهذه المثابة في أعلى درجات المتقين، ولكن القرآن هدى لعموم المتقين ولو لم يصل إلى مرتبة الإحسان عند ذكر المراتب الثلاث، وإنما ينعدم ذلك لدى أولائك الذين طبع الله على قلوبهم، ختم عليها، جعل على أبصارهم غشاوة، وفي آذانهم وقراً، فمثل هؤلاء لا ينتفعون به، ولهذا كان الواحد منهم يخرج من مجلس رسول الله ﷺ، ثم يقول: مَاذَا قَالَ آنِفًا [سورة محمد:16] فلا ينتفعون، فالقرآن هو هدى بمعنى هداية لجميع الخلق، ولكنه خص المحسنين أو خص المتقين كما في سورة البقرة؛ لأنهم المنتفعون به، وعلى قراءة حمزة: هدىً ورحمةٌ، وهي قراءة متواترة كما هو معلوم، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةٌ، يعني يمكن أن يكون خبراً لتلك، أو خبراً لمبتدأ محذوف أي هو هدىً ورحمة للمحسنين، ثم فسر المحسنين هنا بذكر أصول العبادات الكبار، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، فهم يفعلون ذلك رجاء ما عند الله - تبارك وتعالى -، ومضى مراراً أن الله - تبارك وتعالى - يقرن بين الصلاة والزكاة، قيل: لأنهما أصول العبادات، فالعبادات إما مالية وإما بدنية، فالزكاة هي رأس العبادات المالية، والصلاة رأس العبادات البدنية، فينتظم ذلك سائر العبادات، بعضهم كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - يقول: إن سعادة العبد دائرة بين أمرين: الإحسان مع الله - الصلة بالله - والإحسان إلى الخلق، فذكر هذا وهذا.
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، يقول: فمن فعل ذلك فهو من الذين قال الله تعالى: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ أي: على بصيرة وبينة ومنهج واضح جلي، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ في الدنيا والآخرة، وأصل الفلاح هو إدراك المطلوب والنجاة من المرهوب.