يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [سورة الأحزاب:30-31].
يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله -: يقول تعالى واعظاً نساء النبي ﷺ، اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، واستقر أمرهن تحت رسول الله ﷺ فناسب أن يخبرهن بحكمهن وتخصيصهن دون سائر النساء، بأن من يأت منهن بفاحشة مبينة، قال ابن عباس: وهي النشوز وسوء الخلق، وعلى كل تقدير فهو شرط، والشرط لا يقتضي الوقوع كقوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [سورة الزمر:65]، وكقوله : وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:88]، قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [سورة الزخرف:81]، لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [سورة الزمر:4]، فلما كانت محلَّتهن رفيعة ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهن مغلظاً، صيانة لجنابهن وحجابهن الرفيع؛ ولهذا قال تعالى: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ.
قال مالك عن زيد بن أسلم: يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ قال: في الدنيا والآخرة.
وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله.
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي: سهلاً هيناً.
ثم ذكر عدله وفضله في قوله: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أي: يطع الله ورسوله ويستجب نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيماً أي: في الجنة، فإنهن في منازل رسول الله ﷺ، في أعلى عليين، فوق منازل جميع الخلائق، في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش.
فقوله - تبارك وتعالى - هنا: يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْن، قول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: فناسب أن يخبرهن بحكمهن وتخصيصهن دون سائر النساء بأن من يأتي.. إلى آخره.
هذا أمر يختص بهن أن من يأت منهن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين، أما هذه الآداب التي ذكرها الله في هذه الآيات فلا يقال: إن ذلك يختص بهن، كقوله - تبارك وتعالى - مثلاً: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ، وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [سورة الأحزاب:34] إلى غير ذلك، فهذه أمور مشتركة بين المؤمنات، وإنما الاختصاص في هذا.
وقوله - تبارك وتعالى -: مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ الحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال: قال ابن عباس: هي النشوز وسوء الخلق، ثم قال ابن كثير: وعلى كل تقدير فهو شرط، والشرط لا يقتضي الوقوع، على كل تقدير سواء قيل بأن الفاحشة المبينة هي الزنا أو عقوق الزوج، أو الذنب العظيم فهذا شرط، والشرط لا يقتضي الوقوع.
الفاحشة المبينة فُسرت بهذه التفسيرات التي سمعتم، وبعض أهل العلم يقول: الفاحشة إذا قيدت بالبيان أي قيل: فاحشة مبينة فهي عقوق الزوج، النشوز يعني، وإذا أطلقت معرّفة بـ"ال" فهي الزنا وما في معناه، وإذا ذكرت منكّرة "فاحشة" فإنها تكون بمعنى الذنب العظيم، وليس ذلك بلازم، والسياق يفهم منه المراد، فهنا مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ، كما قال الله في المطلقات: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ، فالفاحشة المبينة هناك فسرت بعقوق الزوج والإساءة إلى الأحماء، تتطاول عليهم وتسيء إليهم، فلا يستطيع الخلاص من أذاها إلا بإرجاعها إلى بيت أهلها مثلاً، لأن المطلقة يجب أن تبقى في مدة العدة - أعني المطلقة الرجعية - في بيت الزوج، ولا يجوز أن تذهب إلى أهلها ولا أن تخرج من بيتها مدة العدة إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، وبعضهم يقول: الزنا، وبعضهم يقول غير هذا، فالمقصود أن السياق يبين المراد، فهناك في المطلقات اللائي يقع منهن هذه الإساءة البالغة إلى الزوج وأذاه أو أذى الأحماء، كأن تكون هذه المرأة هوجاء لا يسلمون من لسانها وشرها، وقد يكون ذلك بفعلها في بيتها كأن تفسد متاعه أو تحرق الدار أو تحرق نفسها، أو تقتل أولادها أو تقتل نفسها، فهو لا يستطيع أن يجلس معها الوقت كله، فما المخرج؟ يرجعها إلى أهلها، وكذلك لو كانت المرأة غير مأمونة تخرج مع الرجال الأجانب أو غير ذلك، أو تدخل الرجال الأجانب إلى بيته أو نحو هذا فيمكن أن يذهب بها إلى أهلها ويحفظها عندهم، وما عدا ذلك تبقى، فهنا: مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ فالحافظ ابن كثير يقول: على كل تقدير يعني: مهما فسر، سواء قيل التطاول على الزوج وهذا لا يقع منهن - ن -، أو ما كان من قبيل ما ذكر من المعاني الأخرى، فإن هذا شرط، والشرط لا يقتضي الوقوع، يعني مَن يَأْتِ مِنكُنَّ لا يعني أن ذلك يقتضي وقوعه، فالزنا لا يمكن أن يقع من امرأة نبي، ولو كانت كافرة؛ لأن الله اختار لأنبيائه - عليهم الصلاة والسلام -، ووقوع ذلك قدح في أعراضهم فلا يمكن أن تكون أعراض الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بهذه المثابة، فذلك يعود عليهم، فهذا شرط والشرط لا يقتضي الوقوع، وقد ذكر له أمثلة، وهذه قاعدة معروفة: "الشرط لا يقتضي الوقوع"، فإذا رأيت مثل هذا فإن ذلك لا يعني أنه يقع في الخارج، وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:88] وحاشا الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من الشرك، قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ [سورة الزخرف:81] هذا لا يمكن أن يكون، وهو من الأمور المحالة، لكنه شرط، والشرط لا يقتضي الوقوع، وهكذا.
وفي قوله - تبارك وتعالى -: يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا، يقول ابن كثير - رحمه الله - عن زيد بن أسلم: في الدنيا والآخرة، باعتبار الإطلاق، أن الله أطلقه، "يضاعف"، ولم يقل: في الدنيا، وما قيد ذلك في الآخرة، فهذا الذي جعله يقول بأن ذلك في الدنيا والآخرة؛ لأنه لا دليل على التخصيص أو التقييد.
ثم قال: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ قال: أي يطع الله ورسوله ويستجب، القنوت بمعنى دوام الطاعة لله ولرسوله ﷺ يعني ليست الطاعة بمجردها يقال لها: قنوت، وإنما دوام الطاعة، المداومة على الطاعة، وقد مضى الكلام على هذا المعنى، شيخ الإسلام له رسالة في القنوت، استقرأ فيها المواضع التي جاء فيها القنوت في كتاب الله وخرج بهذا المعنى.
قال: نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ، مسألة الذي يؤتى الأجر مضاعفاً: الأول كما جاء في الحديث: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين[1]، وذكر منهم الكتابي الذي آمن برسوله أو بكتابه وآمن بالنبي ﷺ، فهذه في أهل الكتاب، وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ... إلى أن قال: أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة القصص:51-54].
الثاني في الحديث: العبد الذي أدى حق الله وحق سيده.
والثالث الذي في الحديث: عنده أمة فأدبها وأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها، هؤلاء في الحديث، أما في القرآن فأمهات المؤمنين في هذه الآية، والكتابي تقدم في قوله: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ... أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ، والثالث في القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ [سورة الحديد:28]، هذه التي سألتكم عنها يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ، فالآن صار عندنا في القرآن: الكتابي، وأمهات المؤمنين، وجاء ذلك في أهل الإيمان إذا اتقوا وآمنوا.
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من أسلم من أهل الكتابين، برقم (2849)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة، برقم (241).