الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سورة سبأ:1-2].
يخبر تعالى عن نفسه الكريمة: أن له الحمدَ المطلق في الدنيا والآخرة؛ لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة، المالك لجميع ذلك، الحاكم في جميع ذلك، كما قال: وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة القصص:70]؛ ولهذا قال هاهنا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أي: الجميع ملكه وعبيده وتحت قهره وتصرفه، كما قال: وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى [سورة الليل:13].
ثم قال : وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ، فهو المعبود أبداً، المحمود على طول المدى.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله - تبارك وتعالى -: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ، الحمد: يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: له الحمد المطلق؛ لأن الحمد هنا دخلت عليه "ال" و"ال" هذه للجنس، فيكون له الحمد المطلق من كل وجه؛ لأنه الكامل من كل وجه، فإنه لا يستحق الحمد المطلق إلا من كان له الكمال المطلق، وقال بعده: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ثم قال: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ، فالحمد الأول حمد مطلق، والحمد المطلق يشمل الدنيا والآخرة، فبعد أن ذكر سعة ملكه - تبارك وتعالى - بأن له ما في السماوات وما في الأرض أعاد الحمد ثانية، وذلك أن ملكه - تبارك وتعالى - واقع بين حمدين، وهذا يفيد وصفاً ثالثاً، إذ إن الملك غالباً ما يَحمل على الظلم أو القهر والتسلط بغير حق فيصدر بسبب ذلك بعض ما لا يليق، وأما ملك الله فهو مسبوق حيث ذكر قبله الحمد وبعده الحمد فأوقعه بين حمدين فهو محمود في ملكه.
وقوله - تبارك وتعالى -: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ أي: أنه محمود فيها، الحافظ ابن كثير يقول: فهو المعبود أبداً المحمود على طول المدى، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ، كما يقول أهل الجنة إذا دخلوها وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ [سورة الأعراف:43]، وهكذا: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء [سورة الزمر:74]، فهذا واقع في الآخرة، وهكذا في غيره من المواضع كقوله - تبارك وتعالى - عنهم - عن أهل الجنة - وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [سورة فاطر:34]، وهكذا في قوله: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة يونس:10]، فالله - تبارك وتعالى - محمود في الأولى والآخرة.
قال: وقوله: وَهُوَ الْحَكِيمُ أي: في أقواله وأفعاله وشرعه وقَدَره، الْخَبِيرُ الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه شيء.
وقال مالك عن الزهري: خبير بخلقه حكيم بأمره؛ ولهذا قال: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا أي: يعلم عدد القطر النازل في أجزاء الأرض، والحب المبذور والكامن فيها، ويعلم ما يخرج من ذلك، عدده وكيفيته وصفاته، وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ أي: من قطر ورزق، وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا أي: من الأعمال الصالحة وغير ذلك، وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ أي: الرحيم بعباده فلا يعاجل عُصاتهم بالعقوبة، الغفور عن ذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.
قوله - تبارك وتعالى -: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ قال: الذي لا تخفى عليه خافية، ثم نقل عن الزهري: خبير بخلقه حكيم بأمره، وحكمته - تبارك وتعالى - لا تختص بهذا، وخبرته أيضاً لا تختص بما ذكر، ولكن المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هو الأعم والأليق، والله أعلم.
وقوله - تبارك وتعالى -: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا عبارة ابن كثير هنا جمع فيها الأقوال المنقولة عن السلف، والظاهر أنهم يفسرون ذلك على المثال، يعني أن هذه التفاسير هي من قبيل التفسير بالمثال، يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ كأن يقول قائل: يعني المطر، الماء، فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [سورة المؤمنون:18]، فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ [سورة الزمر:21]، ومن قائل بأنه البذور التي توضع في التراب، إلى غير ذلك من الأقاويل، وما ذكر هنا "ما يلج في الأرض" ما ذكره الحافظ ابن كثير، قال: يعلم عدد القطر النازل في أجزاء الأرض والحب المبذور الكامن فيها، ويعلم.... إلى آخره.
فالذي يدخل في الأرض هو كل ما يلج في الأرض من الموتى، ومن الدواب التي تدخل فيها وهي حية، وكذلك ما يدخل فيها من المعادن والكنوز، وكل ما يصدق عليه أنه يلج في الأرض من مطر ونبات وما إلى ذلك، وكذلك ما يخرج منها، فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا يقول: ويعلم ما يخرج من ذلك، عدده وكيفيته وصفاته، فكل ما يخرج من الأرض من النبات ومن الماء ومن المعادن ومن الدواب، وغير ذلك مما يمكن أن يتصور أو لا يتصور مما لا يعلمه إلا الله ، ما عرفنا وما لم نعرف، كل ذلك داخل فيه؛ لأن "ما" تفيد العموم، فالله لا تخفى عليه خافية، وهكذا في قوله: وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ قال: أي من قطر ورزق، وكل ما ينزل من السماء من الملائكة وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله .
وهكذا في قوله: وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا من الأعمال الصالحة وغير ذلك، أرواح المؤمنين تعرج إلى السماء، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [سورة فاطر:10]، فذلك محمول على العموم.
وقوله: وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ في القرآن يقدم الغفور على الرحيم، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [سورة يونس:107]، وفي هذا الموضع وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ، أما ما كان على الغالب الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فوجه ذلك أن الغفر من باب المحو والتخلية، وأن الرحمة من باب التحلية، فحينما يغفر للإنسان تمحى عنه ذنوبه وتستر عيوبه فلا يؤاخذ بجرائره وجرائمه فهذا هو الغفر، والرحمة قدر زائد على ذلك، مع أنك إذا نظرت إلى المعنى الأعم في رحمة الله فإن من رحمته بعبده أن يستر عيوبه وأن يغفر ذنوبه، لكن لما ذُكر هذا وهذا فسر بما سمعتم، وهنا في هذا الموضع قدم الرحيم على الغفور ووجه ذلك - والله تعالى أعلم - أنه باعتبار ما ذكر قبله في هذا الموضع، فإن الله - تبارك وتعالى - حمد نفسه على ما له من أوصاف الكمال، فله الملك المطلق ويدبر أمر الخليقة، ويعلم أحوالهم، لا يخفى عليه من ذلك خافية، فيحصل لهم من ألطافه ورزقه وتربيته وتدبير شئونهم ما لا قوام لهم إلا به، قال: وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ، والله تعالى أعلم.