وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة سبأ:31-33].
يخبر تعالى عن تمادي الكفار في طغيانهم وعنادهم وإصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن وما أخبر به من أمر المعاد؛ ولهذا قال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، قال الله تعالى متهدداً لهم ومتوعدا، ومخبرا عن مواقفهم الذليلة بين يديه في حال تخاصمهم وتحاجّهم: يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا منهم وهم الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم قادتهم وسادتهم: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ أي: لولا أنتم تصدونا لكنا اتبعنا الرسل وآمنا بما جاءونا به، فقال لهم القادة والسادة وهم الذين استكبروا: أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ أي: نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنَّا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان، وخالفتم الأدلة والبراهين والحجج التي جاءت بها الرسل، لشهوتكم واختياركم لذلك.
قوله - تبارك وتعالى - هنا: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من أهل العلم من يقول: إنهم قصدوا بهذا وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعني من الكتب التي تقدمت القرآن، وبعضهم يقول: وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ما سيأتي بعده مما أخبر عنه من القيامة والبعث والنشور والجزاء والحساب وما إلى ذلك، يعني الدار الآخرة، وقوله - تبارك وتعالى -: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ [سورة سبأ:31] هنا الجواب غير مذكور وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ ماذا يحصل بعد ذلك إذا رأيت هذا؟ يعني لرأيت أمراً هائلاً عظيماً، والجواب يحذف في مثل هذه المقامات لتهويل المقام وتفظيعه وتشنيعه ليذهب الذهن فيه كل مذهب، لرأيت أمراً كما يقول الله : وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ [سورة سبأ:51] يعني لرأيت أمراً شديداً، أو لرأيت أمراً هائلاً، أو لرأيت أمراً مفزعاً، وقوله - تبارك وتعالى -: يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ - نسأل الله العافية - يعني يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم، فهؤلاء يلقون الملامة على هؤلاء، أي الأتباع والمتبوعون، هؤلاء يلومون هؤلاء، وهؤلاء يلومون هؤلاء، وليس ذلك بنافعهم وهذا كله وغيره - كما مضت الإشارة إلى ذلك في مناسبات - يدل على أن النار فيها هؤلاء وهؤلاء، وأن الأتباع غير معذورين عند الله - تبارك وتعالى -، وذلك أن من الناس من يتوهم أن هؤلاء الأتباع من المقلدين أنهم جهلة، وأنهم معذورون، والواقع ليس كذلك، فالقادة والأتباع كلهم في النار، وإن تفاوتوا في العذاب.
ولهذا قالوا: بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار أي: بل كنتم تمكرون بنا ليلا ونهارا، وتَغُرّونا وتُمَنّونا، وتخبرونا أنا على هدى وأنا على شيء، فإذا جميع ذلك باطلٌ وكَذبٌ ومَيْل.
قال قتادة، وابن زيد: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يقول: بل مكركم بالليل والنهار، وكذا قال مالك، عن زيد بن أسلم: مكركم بالليل والنهار.
بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يعني على قول قتادة وابن زيد مكركم بالليل والنهار يعني هو الذي أضلنا، وبعضهم يقول: مكركم بنا الليل والنهار، والمعنى متقارب بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أي مكركم بنا الليل والنهار، يعني الواقع في الليل والنهار، يعني أنه مكرٌ دائمٌ مستمر لا ينقطع ليلاً ونهاراً من أجل إضلال الناس، وأصل المكر في كلام العرب هو الخديعة والحيلة، ويكون ذلك بطُرق خفية، يعني أنهم يعملون على ما من شأنه إضلال هؤلاء الناس وإزاغتهم عن الصراط المستقيم بكل سبيل مستطاع، يمكرون بهم يضلونهم يزينون لهم الباطل يصدونهم عن الحق، يشوهونه في نظرهم وما إلى ذلك من الأعمال القبيحة التي آلت بهؤلاء إلى الضلال والانحراف والبعد عن الصراط المستقيم.
إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا أي نظراء وآلهة معه، وتقيموا لنا شُبَهًا وأشياءَ من المحال تضلونا بها وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ أي: الجميع من السادة والأتباع، كُلٌّ نَدم على ما سَلَف منه.
وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا: وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم، هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أي: إنما نجازيكم بأعمالكم، كُلٌّ بحسبه، للقادة عذاب بحسبهم، وللأتباع بحسبهم قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:38].
روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن جهنم لمّا سيق إليها أهلها تَلَقَّاهم لهبُها، ثم لَفَحَتْهُم لفحةً فلم يبق لحم إلا سقط على العرقوب[1].
قوله - تبارك وتعالى -: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ظاهر كلام ابن كثير أن الجميع ندم على ما سلف منه، يعني أنه أضمر الندامة في نفسه بعدما أدرك ما هو عليه وحقيقة ما جاءت به الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وكشفت الغيوب عن ضلالهم وسوء مصيرهم وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ أضمروا الندامة، وبعضهم يقول: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ أي أخفوها عن غيرهم، وبعضهم يقول: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ أسرّ كل فريق الندامة على الآخر - نسأل الله العافية -، يعني أدرك الجميع أنهم على ضلال فندم السادة وأسروا ذلك عن الأتباع، وندم الأتباع وأسروا ذلك عن السادة وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ فكل فريق أسرّ ذلك عن الآخر، وبعضهم يقول: إن أسرّ من الأضداد تأتي بمعنى أظهر، ويقول: إن قوله: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ أي أظهروا الندامة، هذا وإن كان يصح في اللغة إلا أنه بعيد؛ لأن المتبادر من ذلك هو إضمارها وإخفاؤها وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أنه لا حاجة للتدقيق في المعنى من جهة أنهم أسروها عن السادة أو السادة أسروا عن الأتباع إلى آخره، والمقصود أنهم لما عاينوا الحقائق وتكشفت لهم الأمور أضمروا الندامة في نفوسهم، أضمروا الندامة في نفوسهم عمن؟ هل أضمروها عن السادة أو العكس؟ كل فريق عن الآخر أو أضمروها عن غيرهم لئلا يشمت بهم مثلاً أو غير ذلك، من وقع في مغبة فعله وانكشف له الأمر عما لا يسره فإنه يندم، ويظهر ذلك الندم ويبديه وقد يبتلعه ويخفيه، فهؤلاء أخبر الله عنهم وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يعني وقع الألم والندم في نفوسهم ولم يعلنوا بذلك، يعني هذه تكون نهاية للإنسان، إذا كان في حال من الإحباط، والوقوع في أمر لا مخرج منه ونحو ذلك، فيتسلل إلى نفسه الندم، وهذا - والله تعالى أعلم - هو المتبادر.
- رواه الطبراني في الأوسط، برقم (278)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (5302).