"قال الله - تعالى -: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي: ما ينتظرون إلا صيحة واحدة، وهذه - والله أعلم - نفخة الفزع، ينفخ في الصور نفخة الفزع، والناس في أسواقهم، ومعايشهم؛ يختصمون، ويتشاجرون على عادتهم، فبينما هم كذلك إذ أمر الله - تعالى - إسرافيل فنفخ في الصور نفخة يُطوِّلها، ويمدها، فلا يبقى أحد على وجه الأرض إلا أصغى ليتاً، ورفع ليتاً - وهي صفحة العنق - يتسمع الصوت من قبل السماء، ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر القيامة بالنار، تحيط بهم من جوانبهم؛ ولهذا قال: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أي: على ما يملكونه، الأمر أهم من ذلك وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ.
وقد وردت هاهنا آثار، وأحاديث ذكرناها في موضع آخر، ثم يكون بعد هذا نفخة الصعق التي تموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحي القيوم، ثم بعد ذلك نفخة البعث".
يعني: تموت الأحياء جميعاً إلا من شاء الله على كلام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أن هذه نفخة الفزع، ونفخة الفزع هي ما جاء في قوله - تبارك وتعالى -: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ [سورة النمل:87] فالشاهد أن هذه النفخة بهذا الاعتبار، أو على هذا الاعتبار؛ يكون النفخ في الصور ثلاث مرات، نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث، والنشور، فتكون النفخة الأولى، والثانية، والثالثة، هذا الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وأكثر المفسرين ومنهم ابن جرير - رحمه الله - حمل ذلك على نفخة الصعق، وكثير من أهل العلم يقولون: هما نفختان: نفخة الصعق، ونفخة البعث، وأن نفخة الفزع هي التي يحصل بسببها الصعق، وهنا في هذا الموضع الله - تبارك وتعالى - يقول: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ، والحديث الذي في الصحيحين حديث أبي هريرة يفسر هذا وهو قوله - عليه الصلاة والسلام -: لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان الثوب بينهما فلا يتبايعانه، ولا يطويانه[1]، فإذا قلنا: نفخة الفزع غير نفخة الصعق فهذا الحديث الآن هؤلاء يتبايعون قبل نفخة الفزع واضح؟ قال: ولا تقومُ الساعة وهو يعني الرجل الذي يليط حوضه يعني يصلحه، فلا يسقي منه، لتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها، الآن فلا يطعمها هل هؤلاء لا يطعمون من الفزع، ثم تحصل نفخة طويلة وهي نفخة الصعق؟ أو أن هذه النفخة يحصل لهم بها فزع عظيم يموتون من جرائه؟، لاحظ هذا الذي رفع اللقمة ما يأكلها، نشرا الثوب بينهما فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ إذا كان لا يستطيع أن يأكل هذه اللقمة فهو من باب أولى لا يستطيع أن يذهب إلى أهله، أو يكتب وصية، فكثير من أهل العلم يقولون: هما نفختان، الصعق الذي يحصل بسبب الفزع العظيم وهي المراد بقوله: فَفَزِعَ، والثانية: التي هي البعث، والنشور.
فالآن الله - تبارك وتعالى - بعد هذه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [سورة يس:51] فما ذكر نفخة الصعق على القول بأنها ثلاث نفخات، فهذه الثانية هي نفخة البعث، إذاً التي قبلها هي نفخة الصعق، ولهذا ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد هنا نفخة الصعق، حتى لو قيل: إن النفخات ثلاث، في هذا الموضع يكون المراد - والله تعالى أعلم - نفخة الصعق؛ لأنه ذكر بعدها البعث، لكن حتى التي ذكر الله فيها الفزع قال: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ [سورة الزمر:68] البعث، ولذلك أكثر العلماء يقولون: هما نفختان فقط.
- رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب طلوع الشمس من مغربها، برقم (6506).