هذا - والله أعلم - يحتمل أن يكون أخذه عن بني إسرائيل، وابن عباس - ا - كان ممن أخذ عن بني إسرائيل أمثال كعب الأحبار، ووهب بن المنبه، ومثل هذه الروايات، والله يقول: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ والعظيم في اللغة يقال للشريف، والكبير بِذِبْحٍ عَظِيمٍ والمفسرون في هذا الموضع يفسرونه بالشريف بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وقول ابن عباس هذا الذي ذكره عزاه الواحدي لأكثر المفسرين، لكن مثل هذا لا يقال من جهة الرأي؛ لكنه لا يمكن الحكم برفعه إلى النبي ﷺ إلا بقيد، وهو أن يكون من رواه لا يعرف بالأخذ عن بني إسرائيل، فهنا لا نستطيع أن نحكم برفعه - فالله أعلم -.
"وقد روى الإمام أحمد عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني امرأة من بني سليم - وَلّدت عامة أهل دارنا -: أرسل رسول الله ﷺ إلى عثمان بن طلحة - وقالت مَرة: إنها سألت عثمان: لم دعاك النبي ﷺ؟ - قال: قال: إني كنتُ رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت، فنسيت أن آمرك أن تخمِّرَهما، فَخَمِّرْهما، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي، قال سفيان: لم يزل قرنا الكبش معلقين في البيت حتى احترق البيت، فاحترقا[1]".
وهذا دليل مستقل على أنه إسماعيل ، فإن قريشا توارثوا قرني الكبش الذي فُدي به إبراهيم خلفاً عن سلف، وجيلاً بعد جيل، إلى أن بعث الله رسوله ﷺ".
هذا الدليل سبقت الإشارة إليه في الكلام على هذه المسألة في تحديد الذبيح، وأن هذا أوضح دليل في أن الذبيح هو إسماعيل - عليه الصلاة والسلام -، وليس لقائل أن يقول: إن قريشاً قد تكون توارثت شيئاً لا حقيقة له، وإنهم نسبوا ذلك إلى ذلك الذِّبح الذي فدى الله به إسماعيل ﷺ، فقد أقر به هذا الحديث الثابت الصحيح، فدل على أنه إسماعيل، وأنه لا يعرف أن إسحاق قد قدم إلى مكة، ولم يكن هناك إلا إسماعيل مع أمه، وذكر هنا جملة من الآثار.
"قال سعيد بن جبير، وعامر الشعبي، ويوسف بن مهران، ومجاهد، وعطاء، وغير واحد، عن ابن عباس: "هو إسماعيل ".
وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: "المفدى إسماعيل ، وزعمت اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود".
عن ابن عمر قال: "الذبيح إسماعيل".
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: "هو إسماعيل"، وكذا قال يوسف بن مهران.
وقال الشعبي: "هو إسماعيل ، وقد رأيت قرني الكبش في الكعبة".
وقال محمد بن إسحاق، عن الحسن بن دينار، وعمرو بن عبيد، عن الحسن البصري: أنه كان لا يشك في ذلك: أن الذي أُمر بذبحه من ابني إبراهيم إسماعيل.
قال ابن إسحاق: وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول: "إن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله، وذلك أن الله حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، يقول الله - تعالى -: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، يقول: بابن، وابن ابن، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الله الموعد بما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل.
وقال ابن إسحاق، عن بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة إذ كان معه بالشام، فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهودياً فأسلم، وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علمائهم، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك - قال محمد بن كعب: وأنا عند عمر بن عبد العزيز - فقال له عمر: أيُّ ابني إبراهيم أُمِر بذبحه؟ فقال: إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق لكون إسحاق أبوهم، والله أعلم أيهما كان، وكلٌّ قد كان طاهراً طيباً مطيعاً لله .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: سألت أبي عن الذبيح، من هو: إسماعيل أو إسحاق؟ فقال: إسماعيل، ذكره في كتاب الزهد.
وقال ابن أبي حاتم: وسمعت أبي يقول: الصحيح أن الذبيح إسماعيل قال: وروي عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي الطفيل، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي صالح أنهم قالوا: "الذبيح إسماعيل".
وقال البغوي في تفسيره: "وإليه ذهب عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، والسدي، والحسن البصري، ومجاهد، والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي، والكلبي، وهو رواية عن ابن عباس، وحكاه أيضاً عن أبي عمرو بن العلاء".
وقد روى ابن جرير عن الصنابحي قال: كنا عند معاوية بن أبي سفيان، فذكروا الذبيح: إسماعيل أو إسحاق؟ فقال على الخبير سقطتم، كنا عند رسول الله ﷺ، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله! عُدّ علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين، فضحك رسول الله ﷺ، فقيل له: يا أمير المؤمنين، وما الذبيحان؟ فقال: إن عبد المطلب لما أُمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الله أمرها عليه ليذبحن أحد ولده، قال: فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله؛ وقالوا: افد ابنك بمائة من الإبل، ففداه بمائة من الإبل، وإسماعيل الثاني".
هذا الحديث لا يصح، ولو صح لكان نصاً في هذا الموضوع، وهكذا في قوله: ابن الذبيحين! لا يصح، لا يصح شيء في هذا - والله تعالى أعلم -.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان (6/317-318): "اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْمَنَامِ بِذَبْحِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، ثُمَّ لَمَّا بَاشَرَ عَمَلَ ذَبْحِهِ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ، فَدَاهُ اللَّهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، هَلْ هُوَ إِسْمَاعِيلُ أَوْ إِسْحَاقُ؟ وَقَدْ وَعَدْنَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ بِأَنَّا نُوَضِّحُ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ، وَهَذَا وَقْتُ إِنْجَازِ الْوَعْدِ.
اعْلَمْ - وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ - أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قَدْ دَلَّ فِي مَوْضِعَيْنِ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاق، أَحَدِهِمَا فِي الصَّافَّاتِ، وَالثَّانِي فِي هُودٍ.
أَمَّا دَلَالَةُ آيَاتِ الصَّافَّاتِ عَلَى ذَلِكَ فَهِيَ وَاضِحَةٌ جِدًّا مِنْ سِيَاقِ الْآيَاتِ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [سورة الصافات:99-110] قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ عَاطِفًا عَلَى الْبِشَارَةِ الْأُولَى: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ [سورة الصافات:112]، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبِشَارَةَ الْأُولَى شَيْءٌ غَيْرُ الْمُبَشَّرِ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: فَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ، ثُمَّ بَعْدَ انْتِهَاءِ قِصَّةِ ذَبْحِهِ يَقُولُ أَيْضًا: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ، فَهُوَ تَكْرَارٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْغُلَامَ الْمُبَشَّرَ بِهِ أَوَّلًا الَّذِي فُدِيَ بِالذَّبْحِ الْعَظِيمِ هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَأَنَّ الْبِشَارَةَ بِإِسْحَاقَ نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا مُسْتَقِلَّةً بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [سورة النحل:97] أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنْ النَّصَّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ إِذَا احْتَمَلَ التَّأْسِيسَ وَالتَّأْكِيدَ مَعًا وَجَبَ حَمَلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْكِيدِ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ" ا.هـ.
التأسيس كلام في المعنى، يعني هنا الآن ذكر في هذين الموضعين في الموضع الأول كما ترون: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ وما أمر به من ذبحه، ثم بعد ذلك قال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ فلا تكون البشارةُ الأولى البشارةَ الثانية، وأن ذلك من قبيل التوكيد؛ لأن التأسيس لمعنى جديد مقدم على التوكيد.
وقال - رحمه الله - في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/318): "وَمَعْلُومٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، أَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، فَآيَةُ الصَّافَّاتِ هَذِهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِلْمُنْصِفِ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقُ، وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا بِأَنَّ الْمَوَاضِعَ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا إِسْحَاقُ يَقِينًا عُبِّرَ عَنْهُ فِي كُلِّهَا بِالْعِلْمِ لَا الْحِلْمِ، وَهَذَا الْغُلَامُ الذَّبِيحُ وَصَفَهُ بِالْحِلْمِ لَا الْعِلْمِ.
وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّانِي الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ فِي سُورَةِ هُودٍ: فَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ [سورة هود:71]؛ لِأَنَّ رُسُلَ اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَشَّرَتْهَا بِإِسْحَاقَ، وَأَنَّ إِسْحَاقَ يَلِدُ يَعْقُوبَ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُؤْمَرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَهُوَ عِنْدَهُ عِلْمٌ يَقِينٌ بِأَنَّهُ يَعِيشُ حَتَّى يَلِدَ يَعْقُوبَ؟!.
فَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُنْصِفِ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ دَلَالَةِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ - وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى -". ا.هـ.
- رواه أحمد في المسند، برقم (16637)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير مسافع: وهو ابن عبد الله الحجبي، فمن رجال مسلم، وهو ثقة، سفيان: هو ابن عيينة".