الأربعاء 21 / ذو الحجة / 1446 - 18 / يونيو 2025
إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي: الموحدين منهم، وهذا استثناء منقطع من مثبت".

هنا قوله - تبارك وتعالى -: أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ۝ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ۝ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ يعني أي للعذاب يوم الحساب، والإحضار إذا ذكر على سبيل الإطلاق فإن ذلك يكون مخصوصاً بالشر يعني أنهم محضرون للعذاب.

وقوله: فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ۝ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ، الْمُخْلِصِينَ قال: أي الموحدين منهم، هو فيه قراءتان متواترتان: فتح اللام، وكسر اللام، قال: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ۝ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يكون الاستثناء منقطعاً، إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ وبين القراءتين ملازمة فإن إخلاصهم سبب لخلاصهم، وقد مضى هذا في مواضع قوله - تبارك وتعالى - عن يوسف ﷺ: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [سورة يوسف:24]، والْمُخْلِصِينَ قراءتان متواترتان، فالإخلاص سبب للخلاص في الدنيا، والآخرة.

"وقوله: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ أي: ثناء جميلاً.

سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ كما يقال في إسماعيل: إسماعين".

هنا "ثناءً جميلاً"، والسلام كما سبق تَركَ َ، والثناءَ الجميل، وفي قوله: سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ قراءة أخرى لنافع وابن عامر.

"ويقال: ميكال، وميكائيل، وميكائين، وإبراهيم، وإبراهام، وإسرائيل، وإسرائين، وطور سيناء، وطور سينين؛ وهو موضع واحد، وكل هذا سائغ".

يعني هذا بمعنى أن إِلْ يَاسِينَ هو المذكور قبله وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ، فإلياس هو إلياسين، وأن العرب تتصرف بهذه الأشياء الأعجمية ويقولون هنا: القرآن نزل على معهودهم في الخطاب كما في إبراهام، وإبراهيم، وما ذكر معه، فالشاهد أن هذا هو الأقرب - والله تعالى أعلم - أن إلياس هو إلياسين، ومما يدل على هذا أن الله - تبارك وتعالى - بعد الأنبياء الذين ذُكروا قبله كان يسلم عليهم في الآخر سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ ۝ فِي الْعَالَمِينَ [سورة الصافات:79] سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وهكذا قالوا: هذا كالذي قبله سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ هو نفس النبي المذكور قبل ذلك، يذكر الله خبره، ثم بعد ذلك يذكر التسليم عليه، وليس إِلْ يَاسِينَ غير إلياس، فهذا فيه هاتان القراءتان المتواترتان، وكل ذلك يراد به إلياس، وأنه هو الذي وقع عليه التسليم؛ لكنه اسم أعجمي، والعرب كما يقول بعض أهل العلم: تتصرف في الأسماء الأعجمية، ولهذا قال صاحب كتاب "الصاحبي" وغيره : "أعجمي فالعب به"، يقصدون اللفظ الأعجمي من الأسماء أنهم يتصرفون بها، وأن العرب حينما تتكلم بالأسماء الأعجمية فإنها تتصرف بها بما يتفق مع فطرتها اللغوية، ولا يلوون ألسنتهم بالأعجمية كما يفعل بعض المتكلمين اليوم الذين يظنون أن ذلك اليوم هو الكمال، والحكمة، والحذق، وإنما كان يثقل على ألسنة العرب النطق بالأعجمي، ولا يبالون بالتصرف به، وذكرت لكم حينها في تلك المناسبات بعض الأمثلة المتنوعة، وبعض ذلك مما يمكن أن يعبر به اليوم عن أسماء الأشياء، والآلات، وما إلى ذلك، وبعض الناس يتبسم إذا سمع مثل هذا قد غير بعض الشيء، ويظن أن هذا من الجهل، وما علم أن الجهل هو أهله، وأولى به؛ حيث يلوي لسانه بالعجمة حتى يصير أكثر عجمة من الأعجمي، فالقاعدة عند العرب: أعجمي فالعب به، فيغيرون فيها، ويتلاعبون فيها، ذكرها جمع من علماء اللغة، وكما ذكرتُ صاحب "الصاحبي" وابن جني وغير هؤلاء، فيتلاعبون بهذه الأسماء، وإلياس وإلياسين بعضهم يقول: كل هذا شيء واحد، وبعضهم يقول: إن إلياسين سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ أراد به قومه، ولهذا فإن بعض أهل اللغة يقول: إن ذلك يراد به القوم، وإنهم يسمون، ويُنسَبون إلى الرجل العظيم منهم، وإن لم يكونوا من نسله، فإنهم ينسبون إلى العظيم - كما يقول الأخفش - وإن لم يكونوا من نسله، ينسبون إلى الواحد المعظم عند العرب، فينسب إليه القوم وإن لم يكونوا من ذريته، ونسله، وهذا معروف عند العرب، فيقولون مثلاً: المهالبة نسبة إلى المهلب وإن لم يكونوا من نسل المهلب - والله المستعان -، فيقولون هنا: إنه سمي كل رجل منهم بإل ياسين، وإن لم يكن من نسله - عليه الصلاة والسلام - سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ، وبعضهم يقول غير هذا، بعضهم قال: يرجع إليه، وأراد أن يدخل قومه معه، فدخلوا في اسمه، وبعضهم يقول: إن هذا أصله إلياسيين نسبة إلى إلياس في أنه حذفت الياء كما حذفت في الأشعرين ونحو ذلك، وكما سبق - والله تعالى أعلم - سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ أنه إلياس، وأن التسليم في أواخر الآيات السابقة كان يقع على النبي المذكور، فهذا كذلك - والله تعالى أعلم -، ويحتمل أنه يرجع إليه، وإلى أتباعه، وأما قول من قال: إن المراد النبي ﷺ آل ياسين، آل محمد - عليه الصلاة والسلام - فهذا بعيد، فإن النبي ﷺ لم يرد له ذكر بهذه الآيات كما ترون، وابن القيم - رحمه الله - له تفصيل في هذا، وذكر ضابطاً جيداً مفيداً يمكن الرجوع إليه فقال - رحمه الله -: "وأما قوله تعالى: سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ فهذه فيها قراءتان إحداهما إلياسين بوزن إسماعيل، وفيه وجهان:

 أحدهما: أنه اسم ثانٍ للنبي إلياس، وإلياسين، كميكال، وميكائيل.

والوجه الثاني: أنه جمع، وفيه وجهان:

أحدهما: أنه جمع إلياس، وأصله إلياسيين؛ بياءين كعبرانيين، ثم خففت إحدى الياءين فقيل إلياسين، والمراد أتباعه كما حكى سيبويه: الأشعرون ومثله الأعجمون.

والثاني: أنه جمع إلياس محذوف الياء.

والقراءة الثانية: سلام على آل ياسين، وفيه أوجه:

أحدها: أن ياسين اسم لأبيه فأضيف إليه الآل كما يقال: آل إبراهيم.

والثاني: أن آل ياسين هو إلياس نفسه، فيكون آل مضافة إلى ياسين، والمراد بالآل ياسين نفسه كما ذكر الأولون.

والثالث: أنه على حذف ياء النسب فيقال ياسين، وأصله ياسيين كما تقدم، وآلهُم أتباعهم على دينهم.

والرابع: أن ياسين هو القرآن، وآله هم أهل القرآن.

والخامس: أنه النبي، وآله أقاربه، وأتباعه كما سيأتي.

وهذه الأقوال كلها ضعيفة، والذي حمل قائلها عليها استشكالهم إضافة آل إلى ياسين، واسمه إلياس، وإلياسين، ورأوها في المصحف مفصولة، وقد قرأها بعض القراء آل ياسين فقال طائفة منهم: له أسماء: ياسين، وإلياسين، وإلياس، وقالت طائفة: ياسين اسم لغيره، ثم اختلفوا فقال الكلبي: ياسين محمد، سلم الله على آله، وقالت طائفة: هو القرآن، وهذا كله تعسف ظاهر لا حاجة إليه، والصواب - والله أعلم - في ذلك أن أصل الكلمة آل إلياسين كآل إبراهيم فحذفت الألف واللام من أوله لاجتماع الأمثال، ودلالة الاسم على موضع المحذوف، وهذا كثير في كلامهم إذا اجتمعت الأمثال كرهوا النطق بها كلها، فحذفوا منها ما لا إلباس في حذفه، وإن كانوا لا يحذفونه في موضع لا تجتمع فيه الأمثال، ولهذا لا يحذفون النون من إني، وأني، وكأني، ولكني، ولا يحذفونها من ليتني، ولما كانت اللام في لعل شبيهة بالنون حذفوا النون معها ولاسيما عادة العرب في استعمالها للاسم الأعجمي، وتغييرها له، فيقولون مرة إلياسين، ومرة إلياس، ومرة ياسين، وربما قالوا ياس، ويكون على إحدى القراءتين قد وقع على المسلم عليه، وعلى القراءة الأخرى على آله، وعلى هذا ففصل النزاع بين أصحاب القولين في الآل: أن الآل إن أفرد دخل فيه المضاف إليه كقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46] ولا ريب في دخوله في آله هنا وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ [سورة الأعراف:130] ونظائره.

وقول النبي: اللهم صل على آل أبي أوفى[1] ولا ريب في دخول أبي أوفى نفسه في ذلك، وقوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم[2] هذه أكثر روايات البخاري، وإبراهيم هنا داخل في آله، ولعل هذا مراد من قال: آل الرجل نفسه.

 وأما إن ذكر الرجل ثم ذكر آله لم يدخل فيهم ففرق بين المجرد، والمقرون، فإذا قلت: أعطِ لزيد، وآل زيد؛ لم يكن زيد هنا داخلاً في آله، وإذا قلت أعطه لآل زيد تناول زيداً وآله، وهذا له نظائر كثيرة قد ذكرناها في غير هذا الموضع وهي أن اللفظ تختلف دلالته بالتجريد، والاقتران كالفقير والمسكين هما صنفان إذا قرن بينهما، وصنف واحد إذا أفرد كل منهما؛ ولهذا كانا في الزكاة صنفين، وفي الكفارات صنف واحد، وكالإيمان والإسلام، والبر والتقوى، والفحشاء والمنكر، والفسوق والعصيان، ونظائر ذلك كثيرة ولاسيما في القرآن"[3].

"وقوله: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۝ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ قد تقدم تفسيره".
  1. رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، برقم (1426)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقة، برقم (1078).
  2. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب {يزفون} النَّسَلانُ في المشي، برقم (3190)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي ﷺ بعد التشهد، برقم (405).
  3. جلاء الأفهام، لابن القيم  (207-209).