الجمعة 23 / ذو الحجة / 1446 - 20 / يونيو 2025
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ۝ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ۝ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ۝ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ۝ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ۝ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ۝ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ۝ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ۝ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ۝ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [سورة الصافات:139-148].

يقول الإمام الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: قد تقدمت قصة يونس في سورة الأنبياء، وفي الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال: ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متَّى[1].

وقوله: إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ قال ابن عباس: "هو المُوقَر، أي: المملوء بالأمتعة".

فَسَاهَمَ أي: قارع فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ أي: المغلوبين".

فقوله - تبارك وتعالى -: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ۝ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أصل الإباق يقال: للهرب من السيد، يقال: عبدٌ أبَقَ يعني قد فر من سيده، وذلك أن يونس ﷺ لما كان خروجه بغير إذن ربه - تبارك وتعالى - قيل له ذلك، قيل له: أبق إِذْ أَبَقَ فوُصف بهذا، وبعضهم يقول: إن معنى إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ذهب إليه، إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ هذا قاله بعض أصحاب المعاني كالمبرد، وهو من أئمة اللغة، وكأنه أراد أن يخفف العبارة يعني كلمة أبق والخروج عن طاعة السيد، والفرار منه، فالذي عليه عامة المفسرين أنهم يقولون: المراد أنه خرج بغير إذن ربه - تبارك وتعالى - إذ لم يأذن له بالخروج لما أوشك العذاب أن ينزل بهؤلاء، ووعدهم يوماً معيناً، ثم بعد ذلك خرج، وتركهم مغاضباً لهم قبل أن يأذن الله له، هذا الذي يقوله عامة المفسرين إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، والفلك: مضى الكلام على هذا بأنها السفن وتقال للواحدة وللجمع، قال: فَسَاهَمَ أي: قارع، هذه الفلك أوشكت على الغرق، فأجروا قرعة، فكان ذلك يخرج في سهمه يعني أنه يُلقَى في البحر، ساهم، فأصل المساهمة هي المغالبة وهي الاقتراع من إجالة السهام، فالقرعة يقال لها مساهمة، قال: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ قال: أي المغلوبين، وأصل الدحض هو الزلق عن مكان الظفر، هكذا يفسره أهل العلم، فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ دحض: زلق تزل به الأقدام، ودحض: مزلة تزل بها الأقدام فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فيكون الزلق عن مقام الظفر هنا بمعنى أنه كان من المغلوبين في المساهمة، يعني خرج السهم الذي يكون فيه الإلقاء في البحر في نصيبه، وكما يقول ابن جرير - رحمه الله - أصله الزلق يعني في الماء، مأخوذ من الزلق في الماء، والطين فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ.

"وذلك أن السفينة تَلَعَّبَت بها الأمواج من كل جانب، وأشرفوا على الغرق، فساهموا على من تقع عليه القرعة يلقى في البحر لتخف بهم السفينة، فوقعت القرعة على نبي الله يونس - عليه الصلاة والسلام - ثلاث مرات".

معروف أن القرعة تكون في الحقوق المتساوية، فمَن الأوْلى أن يلقى في البحر؟ هذا يحتاج إلى قرعة.

"وهم يضنون به أن يلقى من بينهم، فتجرد من ثيابه ليلقي نفسه وهم يأبون عليه ذلك".

يعني يتمسكون به، شحّ به، أو ضن بما في يده يعني أمسكه، ولم يفرط فيه، فهم لا يريدون أن يلقى، يرون فضله.

"وأمر الله - تعالى - حوتاً من البحر الأخضر أن يشق البحار، وأن يلتقم يونس فلا يَهْشِمُ له لحماً، ولا يكسر له عظماً".

حوت من البحر الأخضر هذا لم يثبت عن النبي ﷺ في شيء كأنه متلقى في بني إسرائيل، ومثل ذلك لا يصدق، إنما كما قال النبي ﷺ: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج[2]، والمقصود بالبحر الأخضر يعني الأزرق، فالعرب تسمي الأزرق: أخضر، ولا زال هذا إلى اليوم، وتجد في كلام العامة الآن يقولون: صاحب القبة الخضراء بعض الناس يظن أنهم يقصدون النبي  ﷺ، ولكن هذا إذا كان في بيئة لا تعرف هذه الأشياء، لا تعرف الشرك، والدعاء ونحو ذلك، يعني تجد هذا في قلب "نجد" عندنا يقولون: "أفوض أمري إلى القبة الخضراء" يقصدون بذلك السماء، لكن لو قيل هذا في بيئة خرافية يقصدون به النبي ﷺ اللون الأخضر الذي هو لون القبة التي على قبر النبي ﷺ، فالشاهد أن العرب تقول للأزرق أخضر، أزرق يقولون: أخضر!، وفي ألوان الناس الأخضر ليس السواد الشديد، السواد الخفيف، السمرة يقولون: أخضر، أخضر سمرة مثل أهل السودان يقولون: أخضر، وإذا كان مثل الأفارقة يقولون: أزرق، هذا في اصطلاح خاص.

"فجاء ذلك الحوت، وألقى يونس نفسه، فالتقمه الحوت، وذهب به، فطاف به البحار كلها، ولما استقر يونس في بطن الحوت، حسب أنه قد مات، ثم حرك رأسه، ورجليه، وأطرافه؛ فإذا هو حي، فقام يصلي في بطن الحوت، وكان من جملة دعائه: "يا رب اتخذتُ لك مسجداً في موضع لم يبلغه أحد من الناس"، واختلفوا في مقدار ما لبث في بطن الحوت فقيل: "ثلاثة أيام" قاله قتادة، وقيل "جُمعة" قاله جعفر الصادق، وقيل: "أربعين يوماً" قاله أبو مالك، وقال مُجَاهد، عن الشعبي: "التقمه ضحى، وقذفه عشية"، والله أعلم بمقدار ذلك.

كما قال الله : وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82] مثل هذه الروايات إنما تُلقِّين عن بني إسرائيل، وكتبهم قد حرفت، فتجد فيها مثل هذا الذي لا يمكن أن تجمع بينه ثلاثة أيام وبين أربعين يوماً، أو في يوم واحد؛ هذا كله لا يعول عليه، وهذا الذي حصل يعد من المعجزات؛ لأنه إذا ابتلعه الحوت فكيف له بالنفس؟ كيف يتنفس؟ كيف يبقى؟ يختنق، ويموت أليس كذلك؟ فهذه معجزة هذا أمر خارق للعادة، وإلا فالإنسان إذا ابتلعه الحوت ولو لم يهشم له لحماً، ولم يكسر له عظماً؛ فإنه يموت في بطنه، إذا دخل الإنسان الحوت هل سيجد غرفة فارغة في داخل بطن الحوت؟ ستلتصق عليه أحشاؤه لا يوجد موضعاً للنفس.

  1. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله - تعالى -: وإن يونس لمن المرسلين، برقم (3234)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في ذكر يونس وقول النبي ﷺ: لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى برقم (2376).
  2. رواه أبو داود، كتاب العلم، باب الحديث عن بني إسرائيل، برقم (3662)، وأحمد في المسند، برقم (10130)، وقال محققوه: "صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن من أجل محمد بن عمرو - وهو ابن علقمة الليثي - فهو حسن الحديث، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين، أبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3131).