"فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [سورة الصافات:161-170].
يقول تعالى مخاطباً للمشركين فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ أي: ما ينقاد لمقالكم وما أنتم عليه من الضلالة، والعبادة الباطلة من هو أضل منكم ممن ذُرئ للنار لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [سورة الأعراف:179] فهذا الضرب من الناس هو الذي ينقاد لدين الشرك، والكفر، والضلالة كما قال - تعالى -: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [سورة الذاريات:8-9] أي: إنما يضل به من هو مأفوك، ومبطل".
قوله - تبارك وتعالى - هنا: فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ "ما" هذه تحتمل أن تكون موصولة أي والذي تَعبُدون، وتحتمل أن تكون مصدريه، فإنكم وعبادتكم مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ يعني أن مثل هذه المعبودات أو هذه العبادة، وأنتم معها لستم بفاتنين إلا من سبق له في علم الله ، وفي قضائه الذي قضى، وقدره الذي قدره أنه من أهل الشقاء، قضى عليه ذلك في الأزل أنه من أهل الشقاء، وإلا فإن هذه الأصنام، والأوثان، وحال هؤلاء الذين يعبدونها حيث ألغيت العقول التي أكرم الله الإنسان، وميزه بها؛ فانحطت هذا الانحطاط، وسفلت هذا السفول، هؤلاء لا يفتنون أحداً إلا من هو صال الجحيم، وقل مثل هذا اليوم في ألوان الضلالات التي يضل بها من يضل، فهذا معنى كبير، ومثل هذا قوله - تبارك وتعالى - عن وحي الشياطين - شياطين الإنس والجن -: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ [سورة الأنعام:112-113] فهذا إنما تصغي إليه القلوب المريضة التي تؤثر الباطل على الحق، فأولئك كالجعلان يدفع بأنفه النتن، وتقتله الروائح الطيبة - نسأل الله العافية - هذا حال كثير من الخلق، واعتبر هذا بما تشاهده اليوم عبر هذه الوسائل في الاتصال وفي غيرها تجد للفتن من يتقحمها - نسأل الله العافية -، يتقلبون في أهوائهم، ويتمرغون ظهراً لبطن، ويتشربون الشبهات، والضلالات، والأهواء، ويبحثون عنها يجرون وراءها، ويقرءون ما يكتب في هذا، وما ينشر، ثم ما يلبث الواحد منهم أن يفتن في دينه - نسأل الله العافية -، وفي إيمانه؛ فينتكس، ويبقى في قلبه ريب، وشك، فهذا لا يمكن أن يكون عليه حال أهل الإيمان الذين عرفوا الله معرفة صحيحة بأسمائه، وصفاته، وعظموه التعظيم اللائق مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ، ولهذا قال الله لنبيه ﷺ: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [سورة فاطر:8] هؤلاء الذين انحرفوا، وضلوا، والذين ارتدوا على أدبارهم؛ كل هؤلاء لا يستحقون أن تتأسف عليهم، وأن تحزن عليهم، وتذهب نفسك عليهم حسرات، والله عليم حكيم، وإلا فشأن هذه الأشياء التي هي باطل، وضلالة؛ أنها لا تفتن من كان من أهل اليقين، والإيمان الراسخ، والبصائر في الدين، إنما تفتن الذين عندهم ضعف، وشك، أو وهن، ومرض في قلوبهم.