الأحد 13 / ذو القعدة / 1446 - 11 / مايو 2025
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ۝ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ۝ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ۝ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ۝ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ۝ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ۝ فَإِذَا نزلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ۝ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ۝ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ [سورة الصافات:171-179].

يقول تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ أي: تقدم في الكتاب الأول أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا، والآخرة كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة المجادلة:21]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ [سورة غافر:51]؛ ولهذا قال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ أي: في الدنيا، والآخرة، كما تقدم بيان نصرتهم على قومهم ممن كذبهم، وخالفهم، وكيف أهلك الله الكافرين، ونجّى عباده المؤمنين.

وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ أي: تكون لهم العاقبة".

الغلبة هنا وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا يعني كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي كتب ذلك في الأزل في اللوح المحفوظ، فكلمته - تبارك وتعالى - هي ما قضاه وقدره في الأزل قال: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ۝ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ النصر والغلبة هنا بعض أهل العلم يحمله على الغلبة بالحجة، والبرهان، وهذا الذي ذهب إليه جمعٌ من المفسرين كابن جرير - رحمه الله - وجماعة، وكأن الذي حملهم على هذا - والله تبارك وتعالى أعلم - أن من الرسل - عليهم الصلاة والسلام - من لم يؤمن به أحد، وكما قال النبي ﷺ: يأتي النبي يوم القيامة معه الرجل، ويأتي النبي ومعه الرجلان، ويأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي وليس معه أحد[1]، فهذا الذي ليس معه أحد هل يقال: إنه انتصر، وغلب؟ هذا بالإضافة إلى أن بعض الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - قُتل، والذي قتل يكون مغلوباً بدليل قوله الله - تبارك وتعالى -: فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ [سورة النساء:74] فجعل المقتول مقابلاً للغالب، يُقتَل أو يغلِب، قالوا في المقتول مغلوب فكيف قال الله - تبارك وتعالى -: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ؟

قالوا: بالحجة، والبرهان، والبيان، وهذا قول، وذهب إليه ابن جرير - رحمه الله -، والقول الآخر وهو أن الغلبة تشمل الحجة، والبيان، والغلبة أيضاً بالسيف، والسنان ميدان المعركة، وهذا الذي يدل عليه القرآن - عامة المواضع -، وإذا تردد المعنى بين احتمالين انظر للغالب في الاستعمال في القرآن كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً [سورة البقرة:249]، والآيات التي فيها الغلبة كقوله: كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، وكذلك الم ۝ غُلِبَتِ الرُّومُ [سورة الروم:1-2] إلى غير هذا، ومحمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - مثلاً في عدد من المواضع يجمع الآيات التي فيها ذكر الغلبة، ثم يقرر بأن الغالب في ذلك هو بمعنى الغلبة في ميدان المعركة، ولهذا يقول: إن الآية محمولة على المعنيين الغلبة بالحجة، والبرهان، والغلبة بالسيف، والسنان، إذا تقرر هذا فيرِد السؤال على هذا القول إذا كان الغلبة بالسيف، والسنان، فبعض الأنبياء قتل، والمسلمون هزموا يوم أحد؛ فما الجواب؟ الجواب أن دعوة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - واحدة، والله قال: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [سورة الأعراف:128]، ولما ذكر الله عيسى ﷺ قال: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:55] مع أن أتباع المسيح كانوا مستضعفين من قِبل اليهود، ثم بعد ذلك نحو ثلاثمائة سنة لما دخل قسطنطين في النصرانية بوثنيته، وأفسدها، وأقرت عقيدة التثليث في الواقعة المشهورة المجمع الذي عقد لهذا في نيقيا، وصار أهل التوحيد مستضعفين في ممالك الروم؛ فلم يكن لهم ظهور، وغلبة؛ في المعنى المعروف، كانوا مستضعفين، والله يقول: فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ [سورة الصف:14]، يعني الَّذِينَ آَمَنُوا بعيسى ﷺ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ فهذا الظهور يقصد به بعضهم يقول: فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ أصبح النصارى ظاهرين على اليهود، وهذا ما عرف إلا بعدما دخل قسطنطين، لكن قسطنطين أدخل الوثنية، وأدخل النصرانية في وثنيته، فبعض أهل العلم كابن القيم - رحمه الله - يقول: لما كان النصارى عندهم شائبة من اتباع المسيح، وإن كان عندهم ضلال، وانحراف، وشرك؛ إلا أنهم كانوا أقرب إلى المسيح من اليهود الذين قالوا: ابن زانية، فكان لهم هذا الظهور باعتبار قربهم من المسيح، أقرب من اليهود، وبعض أهل العلم يقول - ولعله أقرب والله أعلم -: إن هذا الظهور لم يكن إلا ببعث النبي ﷺ، فحصل لليهود ما حصل من إجلاء، وقتل، وأسر فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [سورة الصف:14] فالمقصود أن العبرة بالعاقبة، ليست العبرة بنقص البدايات، وإنما بكمال النهايات، فدعوة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - واحدة، فتكون العاقبة لهم، وكما جاء في حديث هرقل لما سأل أبا سفيان عن الحرب بينهم وبين النبي ﷺ فقال: "يُدال علينا مرة، ونُدال عليه مرة"، قال: هكذا الرسل، ثم ذكر لهم بالنهاية العاقبة، والغلبة، فكون النبي ﷺ مثلاً والصحابة هزموا يوم أحد، ومعهم النبي ﷺ فهذا لا يشكل على هذا الموضع، وإنما العبرة بالنهاية، وأنت حينما تقرأ ما وقع في يوم أحد، والتفاصيل في كتب السيرة التي تذكر التفاصيل، ومن قُتل من الصحابة، وما قيل في ذلك المقام، ونحو ذلك؛ كأنك تشاهد تلك الواقعة، ويقع الحزن في قلب الإنسان، وينسى نفسه وكأنه يعيش معهم في نفس الحدث، لكن حينما ينظر إلى هذه الواقعة، ويخرج من هذا النظر في محيطها؛ ينظر إلى ما بعد ذلك من دخول هؤلاء وبعض هؤلاء في الإسلام، فأبو سفيان مَن قاتل المرتدين، وابنه صار أمير المؤمنين، والحارث بن هشام أسلم، وحسن إسلامه، وقل مثل ذلك في عكرمة، وخالد بن الوليد، صاروا من خيار أهل العلم، صاروا يقاتلون، ويذبون عن هذا الدين، ويجاهدون في سبيل الله - تبارك وتعالى -، فليست العبرة بهذا الذي وقع في يوم أحد، إنما العبرة في كمال النهايات، فهذه محطة، ومرحلة، لكن العبرة كما يقول الناس - سواء من الأطباء أو من غيرهم في أي مجال من المجالات - في الانحدار، والارتفاع، تجد في قول النبي ﷺ مثلاً: لا يأتي على الناس زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم[2] يعني خط الانحدار في الرسم البياني؛ لكنه متعرج، ففي بعض المواضع تجد فيه ارتفاعاً في المؤشر، ثم بعد ذلك الانحدار، وهذا الارتفاع في المؤشر لا يؤثر على مسار هذا - والله المستعان -، الانحدار لا يؤثر فيه، وقل مثل ذلك في الأحوال، والأشياء الكثيرة الداخلة في هذا المعنى، والإنسان الذي يرتقي وإيمانه - المؤمن -، وموفق في الارتقاء؛ قد يحصل له في الرسم البياني في بعض المواضع فتور، ولكن يبقى المؤشر في ارتفاع فهذا هو الصحيح، لا يخلو الإنسان من فتور، لا يخلو من خطأ، لا يخلو من تقصير، لكن يكون إلى ارتفاع، لكن المشكلة من يكون في انحدار، وإن حصل له من نتوءات، وارتفاع قليل في بعض المواضع؛ لكنها في النهاية غير مؤثرة، فهو إلى الحضيض، هذا في معاني الأمور وفي غيرها.

  1. رواه البخاري، كتاب الطب، باب من لم يَرقِ، برقم (5420).
  2. رواه البخاري، كتاب الفتن، باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه، برقم (6657).