المقصود بقوله: بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أنها صافية بصفائها شدة الصفاء، بخلاف خمر الدنيا، فيقال لها: بَيْضَاءَ أو المقصود البياض الذي هو البياض المعروف يحتمل، وجاء عن بعض السلف كالحسن البصري أن خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن؛ لأنها شديدة البياض، لونها مشرق، ومشرق بمعنى أنها بغاية الصفاء، ولا يلزم من ذلك أن تكون بيضاء البياض الذي يتبادر إلى الأذهان كبياض اللبن.
"نزه الله خمر الآخرة عن الآفات التي في خمر الدنيا من صداع الرأس، ووجع البطن - وهو الغول -، وذهابها بالعقل جملة، فقال تعالى هاهنا: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي: بخمر من أنهار جارية، لا يخافون انقطاعها، ولا فراغها.
قال مالك عن زيد بن أسلم: خمر جارية بيضاء، أي: لونها مشرق، حسن بهى، لا كخمر الدنيا في منظرها البشع الرديء من حمرة، أو سواد، أو اصفرار، أو كُدورة، إلى غير ذلك مما ينفر الطبع السليم.
وقوله : لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي طعمها طيب كلونها، وطِيب الطعم دليل على طيب الريح، بخلاف خمر الدنيا في جميع ذلك".
يعني أنها كريهة المنظر، كريهة الرائحة، كريهة الأثر.
القُولنج وجع البطن، دائماً يصيب البطن يعني يصيبه بالوجع، والمغص، ويكون في هذا الجزء من الأمعاء الذي يسمى اليوم بالقولون، وقديماً كان يقال له: القولون أيضاً، فيحصل بسبب ذلك أوجاع، وإمساك شديد، وهو من الأمراض المشهورة المعروفة قديماً، وحديثاً، وأوجاع القولون كثيرة لكن الذي يقصدونه هنا نوع من هذه الأوجاع المشهورة التي يصيب الإنسانَ معها الألمُ الشديد الذي لا يطاق، وقد يحصل معه الوفاة، يذكرونه في كتب الطب القديم في مواضع كثيرة؛ لأنه من الأمراض المشهورة جداً، ويذكرون في كتب الأعشاب، والأدوية، يذكرون الأشياء التي تفيد معه كثيراً يقولون: الشيء الفلاني، الطعام الفلاني، العشبة الفلانية نافعة؛ يتكرر هذا كثيراً، والقولنج عندهم أنواع منها ما هو رطب بارد، وهنا قالوا: لكثرة مائيتها، إذاً قوله - تبارك وتعالى -: لا فِيهَا غَوْلٌ الغول فُسر بوجع البطن الذي يصيبه بسبب الخمر، لذلك تجدون - أعزكم الله - هؤلاء يستفرغون غالباً بعدها، ولذلك تجدون في بلاد الغرب وما شابهها من البلاد التي تبيح الخمر يعاني أصحاب الحانات والأماكن التي تبيع الخمور معاناة شديدة من أمور كثيرة منها ما يحصل من السكارى، ومنها ما يحصل أيضاً من الأذى، والقذر؛ بأن هؤلاء يبدؤون يستفرغون بهذا المحل، ففسر بوجع البطن، وفسر أيضاً بالصداع، وفسر أيضاً بذهاب العقل إذا سكر الإنسان، فبعض أهل العلم جمع هذه المعاني في تفسيرها وقال: إن نفي الغول عنها بمعنى أنها لا تغتال عقول شاربيها، ولا يصيبهم منها الصداع، وأوجاع البطن، فجمعوا بين هذه المعاني، وبعضهم اقتصر على ذهاب العقل، قال: الغول هو ذهاب العقول تغتال العقول، هذا قال به أبو عبيدة من أهل اللغة، وهو اختيار ابن جرير - رحمه الله -، لا فِيهَا غَوْلٌ لا تذهب عقولهم بسبب شربها، وأصل الغول - فيما يذكره بعض المفسرين كالواحدي - هو الإهلاك، الغول يأتي بمعنى الهلاك، أصله قالوا: بمعنى الهلاك، لا فِيهَا غَوْلٌ أي إهلاك، كل ما اغتالك فهو يقال له: غول، وحاول بعضهم أن يجمع المعاني التي قيلت بطريقة أخرى فقال: كل ما يحصل به الإهلاك بطريق خفي، أو كل ما يحصل به الفساد بطريقٍ خفي؛ فهو غول، فساد العقل، وفساد مزاج البدن بالصداع، والمغص، والوجع الذي يكون في البطن، لا فِيهَا غَوْلٌ يعني مثلاً الحسن البصري اقتصر على الصداع، وابن كيسان اقتصر على المغص، والسلف يفسرون الآية بجزء المعنى، فإذا كان هؤلاء أهل اللغة، وفسر بعضهم بهذا، وبعضهم بهذا، ونحن نعلم أنه يفسره ببعض المعنى، ومن ثم إذا كان ذلك فيصدق على هذه جميعاً أنها غَوْلٌ فلا يكون فيها غَوْلٌ فلا تذهب بالعقول، ولا يفسد معها مزاج البدن بصداع، أو مغص، أو وجع البطن - والله أعلم -.
"وقوله: وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ قال مجاهد: "لا تذهب عقولهم"، وكذا قال ابن عباس، ومحمد بن كعب، والحسن، وعطاء بن أبي مسلم الخرساني، والسدي، وغيرهم.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: "في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول، فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال، كما ذكر في سورة الصافات"".
قوله: لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ قراءة الجمهور يُنزَفُونَ وفي قراءة حمزة والكسائي بضم الياء وكسر الزاي يُنزِفُونَ وهاتان القراءتان كل قراءة لها معنى، فقراءة حمزة والكسائي يُنزِفُونَ تحتمل معنيين بمعنى أن المراد أنزف الرجل إذا فنيت خمره يعني تفنى، وتنقضي، وتنفد، والمعنى الثاني الذي هو الذهاب، أنزف الرجل ذهب عقله، أما يُنزَفُونَ فيكون بمعنى ذهاب العقول، ولهذا تجدون من فسر الأول لا فِيهَا غَوْلٌ بوجع البطن، أو الصداع أو نحو ذلك، وما فسره بذهاب العقل مع أنه يأتي بمعناه كأنهم راعوا هذا ألا يكون هناك تكرار فقصروا الأول على بعض معانيه، لا فِيهَا غَوْلٌ، والثاني على معنى ذهاب العقل على قراءة يُنزَفُونَ وهذا ملحظ لا إشكال فيه في التفسير، ولو أن قائلاً أيضاً قال: إن الأول عام لا فِيهَا غَوْلٌ لا يتطرق الفساد إليهم بشربها بذهاب العقول، ولا اختلال مزاج الأبدان بوجع الرأس، وألم البطن، وأنه ذكر بعده معنى أخص وهو المشهور، وهو الأعظم، والأنكى الذي حرمت من أجله الخمر وهو ذهاب العقول؛ فيكون من قبيل عطف الخاص على العام، فذكر مفسدة أفردها هي أعظم مفاسد الخمر فيكون هذا خاصاً، والأول عاماً، الغول، لو قال أحد بهذا لكان ذلك له وجه قريب من النظر - والله تعالى أعلم - لاسيما أنه تفسير له بمعناه الذي يدل عليه بلغة العرب، فإن الخمر تطلق على هذا وهذا، ولكن هذه القراءة التي تكون بضم الياء وكسر الزاي يُنزِفُونَ تحتمل المعنيين أنها تنفد، أو تذهب بالعقول، بعض أهل العلم فسرها بالأول قال: إن هذه القراءة يُنزِفُونَ بمعنى أنها لا تفنى، أنزف الرجل إذا فنيت خمره، وهذا المعنى اختاره ورجحه الفراء وابن جرير من أجل أن كل قراءة يكون لها معنى، فتكون يُنزَفُونَ بمعنى تذهب عقولهم، ويُنزِفُونَ بمعنى تفنى خمرهم، والقراءتان إذا كان لكل قراءة معنى يخصها فهما بمنزلة الآيتين، فدلت إحدى القراءتين على أنها لا تذهب بالعقول، ودلت القراءة الثانية على أن هذه الخمر لا تنفد، فهي أنهار من الخمر - والله تعالى أعلم -.