الجمعة 11 / ذو القعدة / 1446 - 09 / مايو 2025
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُۥ هُمُ ٱلْبَاقِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ۝ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ۝ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ۝ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ۝ سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ۝ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۝ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ۝ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ [سورة الصافات:75-82].

لما ذكر تعالى عن أكثر الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة؛ شرع يبين ذلك مفصلاً فذكر نوحاً وما لقى من قومه من التكذيب، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول المدة، لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فلما طال عليه ذلك، واشتد عليه تكذيبهم، وكلما دعاهم ازدادوا نفرة، فدعا ربه أني مغلوب فانتصر، فغضب الله لغضبه عليهم؛ ولهذا قال: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أي: فلنعم المجيبون له، وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وهو التكذيب، والأذى، وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: "لم تبق إلا ذرية نوح "، وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ قال: "الناس كلهم من ذرية نوح "، وقد روى الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن سمرة عن النبي ﷺ في قوله: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ قال: سام، وحام، ويافث[1]، وروى الإمام أحمد عن سمرة؛ أن نبي الله ﷺ قال: سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم[2] ورواه الترمذي.

والمراد بالروم هاهنا: هم الروم الأُوَل، وهم اليونان المنتسبون إلى رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن نوح .

فقوله - تبارك وتعالى - هنا وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ اللام هنا وَلَقَدْ نَادَانَا فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ هي الموطئة للقسم، وقوله - تبارك وتعالى -: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ونقل هنا عن ابن عباس - ا - وغيره أنه لم يبق إلا ذرية نوح - عليه الصلاة والسلام -، وهذا إما أن يكون باعتبار ما جاء في بعض المرويات التي ترجع إلى بني إسرائيل أن الذين آمنوا معه هؤلاء القليل الذين قال الله - تبارك وتعالى - فيهم: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [سورة هود:40]، وأن هؤلاء هم أبناؤه - سوى الابن الذي غرق -، وأزواج بناته؛ فكانت الذرية بهذا الاعتبار من هؤلاء، أنهم هم الذين ركبوا معه في السفينة، وأنجاهم الله - تبارك وتعالى -، فتناسل الناس منهم، وبهذا يكون ذلك مع قوله - تبارك وتعالى -: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ [سورة الإسراء:3] ما قال ذرية نوح: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ فهؤلاء ركبوا معه، والله أضاف الذرية إليه: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ، قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة هود:48] هؤلاء يأتون بعد ذلك، أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ فيكون بهذا الاعتبار بناء على هذه المرويات، ولا يمكن أن يعتمد على المرويات الإسرائيلية أن الناس تناسلوا من نوح ﷺ بهذا الاعتبار، باعتبار الذين ركبوا معه هم أبناؤه، وأزواج بناته، ومعلوم أن أولاد البنات من جملة الذرية كما قال النبي ﷺ في الحسن : إن ابني هذا سيد[3] وهو ولد بنت، و لا عبرة بقول الشاعر:

بنُونا بنو أبنائِنا وبناتُنا بنوهنّ أبناءُ الرجالِ الأباعدِ

لا عبرة بهذا، والصحيح أن أولاد البنات من الذرية، وبعض أهل العلم يقول غير ذلك، يعني منهم من يقول في قول الله - تبارك وتعالى -: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ: يمكن أن يكون ذلك باعتبار أن الذين بقوا من النسل هم من كان تناسل من نوح - عليه الصلاة والسلام - بعد ذلك، وأن الباقين الذين ركبوا معه قد انقطعت ذريتهم، لم يكن لهم التناسل الممتد الذي جاء بعده أمم وأقوام وما شابه ذلك، وبعضهم يقول: إن ظواهر الآيات الأخرى تدل على وجود ذرية ممن كانوا مع نوح ﷺ غير ذرية نوح - عليه الصلاة والسلام -، فيحتجون بمثل قوله: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وهذا ليس بصريح في ذلك، ويمكن حتى وإن كان معه غير أزواج بناته، وغير أبنائه الذكور؛ أن يكون الذين بقوا ممن تناسلوا بعد ذلك هم ذرية نوح ﷺ وأولاد نوح، وإن ركب معهم في السفينة غيرهم، والذين ركبوا في السفينة الروايات مختلفة في عددهم، بعضهم يوصلهم إلى ثمانين، وبعضهم إلى غير هذا أنهم قلة، قال: الناس كلهم من ذرية نوح ، وهذا واضح لقوله - تبارك وتعالى -: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ، ولهذا يقال لنوح ﷺ إنه آدم الصغير؛ لأنه أبو البشر، فكل الناس الذين على ظاهر الأرض هم من ذرية نوح ﷺ، كما أنهم من ذرية آدم - عليه الصلاة والسلام -، أما هذه الروايات هنا قال: وقد رواه الترمذي وابن جرير، وابن أبي حاتم عن سمرة عن النبي ﷺ قال: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ قال: "سام، وحام، ويافث" فإنها لا تصح من رواية الحسن عن سمرة، وهي معنعنة لا تصح، وكذلك التي بعدها، روي الإمام أحمد عن سمرة أن النبي ﷺ قال: سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم رواه الترمذي لا تصح، وتقسيم الأمم، وإرجاع ذلك إلى أولاد نوح تفصيلاً؛ ليس ذلك محل اتفاق، وتجد في الروايات اختلافات، لكن لا يصح في ذلك شيء عن النبي ﷺ، فتجد أن بعضهم نسب البعض إلى أحد أولاد نوح، وبعضهم يرجعه إلى آخر، وجاء عن سعيد بن المسيب - رحمه الله - أن سام أب للعرب، والفرس، والروم، واليهود، والنصارى، وهذا غير منضبط، والنصارى حينما يقال: نصارى فإن ذلك لا يعني قوماً لهم عرق معين، فمعلوم أن عيسى ﷺ أرسل إلى بني إسرائيل، والنصارى واليهود شيء واحد، فاليهود هم بنو إسرائيل، وعيسى ﷺ أرسل إليهم فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ [سورة الصف:14] كما أنه أرسل - عليه الصلاة والسلام - للكفار من اليونان، وهؤلاء غير بني إسرائيل، وقد آمن به أقوام غير هؤلاء منذ قديم الدهر، ونحن نعرف أن المسلمين هاجروا إلى الحبشة، وكان فيها النصارى وهم أفارقة ليسوا من عرق اليونان، ولا من بني إسرائيل، وهذا معروف، كما وُجد النصارى في نواحٍ مختلفة في بلاد العرب وغيرها؛ كان بنو تغلب في الجاهلية على دين النصارى في الغالب إلى غير هؤلاء، فهذه الرواية عن سعيد بن المسيب تعزو هؤلاء إلى سام، وأن حام هو أبو السودان من المشرق إلى المغرب؛ السند، والهند، وأهل النوبة، والزنوج، والحبشة، والقبط، والبربر، وغير هؤلاء كل هؤلاء يرجعون إلى حام، ولكن الهند لا علاقة لها بهذا، فالهند كما يقول من زارها من الرحالة مثل ابن بطوطة لما وصف حال الهند، وما رأى فيها، وشاهد من الناس وصف الناس فذكر أنه وجد قوماً يعني في صفتهم كالسودان في لون البشرة، وذكر من ذكائهم، وفطنتهم، ونباهتهم، فهم يشبهون الحبشة من جهة اللون، وأما يافث فيقولون: الصقالبة، والترك، والخَزَر، ويأجوج ومأجوج وغير هؤلاء - والله أعلم -، ولا يثبت في هذا شيء.

  1. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الصافات، برقم (3230)، وابن جرير الطبري في تفسيره (19/560).
  2. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (20100)، وقال محققوه: إسناده ضعيف.
  3. رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب الحسن والحسين - ا -، برقم (3536).